كثيرا ما عرف التاريخ حكومات المنفى، وغالبا ما كانت هذه الظاهرة اضطرارا يفرض في حالة الاحتلال، واحيانا تدبيرا تلجأ اليه معارضة فرت الى الخارج. لكن ان تقيم حكومة في عاصمة جارة بسبب عدم تمكنها من الحياة، امنيا، على ارض بلادها، فتلك اخر النكات السوريالية. غير انها نكتة تثير الدموع في الوقت نفسه الذي تثير فيه الضحك.
صورة الحكومة الصومالية وهي تؤدي اليمين الدستورية في عاصمة غانا، وللمرة الثانية بعد ان خلعها البرلمان، لا تثير فينا ذلك الاحساس بالنسبة للصومال فحسب، بل وتدفعنا الى التساؤل : هل سيكون ذلك مصير الحال العراقي يوما؟
فمن اللبننة الى الصوملة، اصبحت الصفات المشتقة من اسماء بلادنا رمزا علميا للكوارث والمآسي والفوضى.ومنذ بداية التسعينات توقع المحللون السياسيون للعراق حال اللبننة ( وربما يكون اولهم الوزير الفرنسي جان بيير شفينمان، الذي تخوف حينها من لبننة العالم ايضا ) وها هي البلاد تعيشها. والان يتحدث الكثيرون عن حال الصوملة، فهل يمكن ان يبلغ بنا الخيال تصور ان تقسم الحكومة العراقية اليمين يوما في احدى عواصم الجوار لعدم تمكنها من الحياة امنيا في بغداد؟
كثيرون سيقولون ان ذلك مستحيل وان العراق ليست الصومال، ولا لبنان. لكن الواقع ان ما تمتلكه العراق من ثروات ومقومات وتاريخ واهمية ستراتيجية يجعله اكثر عرضة لكل احتمالات الدمار.
فماذا سيحصل بعد الانتخابات القريبة التي يعتبرها جورج بوش لحظة تاريخية ؟ اي سيناريو سيتبلور على ارض الرافدين ؟ حرب اهلية ام تنامي الفوضى؟ وما الذي ستمثله حكومة منتخبة تحت حراب الاحتلال وفي ظل مقاطعة نصف ابناء البلاد ؟ ما الذي سيتغير عن حكومة اياد علاوي او عن مجلس بول بريمر؟
شيء واحد هو الذي سيتغير، الا وهو اعفاء الاحتلال الاميركي من المسؤولية المباشرة عن كل الدمارالذي يعصف، ومنح القرارات التي ستتخذ صفة الشرعية الشعبية. صفة لن تكون مقنعة لاحد في الداخل، ولن يعترف بها الا المستفيدون منها، وستذكي اكثر النيران المتاججة، لكنها ستمكن جورج بوش وفريقه من امتشاق سيف ديبلوماسي قوي في الخارج والداخل : ستقول الادارة الاميركية للعالم من جهة وللراي العام الاميركي من جهة اخرى انها انجزت مهمة الديمقراطية في العراق. وسيتمكن رئيسها من كرّ جميع العبارات الرنانة التي اعتدنا عليها دون ان يقيم اي اعتبار لتوفر اي قدر من الصدق فيها. مما يمكنه بالتالي من تخفيف الضغط الذي بدأ يتنامى داخل الولايات المتحدة، حول فشل مغامرة الاحتلال، خاصة مع توارد الجثث والمصابين الى البلاد.
تاريخ الاعلام السياسي يقول ان حرب فيتنام حسمت امام شاشات التلفزيون في بيوت الاميركيين، والادارة الاميركية تعرف ذلك جيدا وتريد ان تجعل من الانتخابات مادة خطاب توجهه لمشاهد التلفزيون.
اما الطرف الاخر المهم في المعادلة، وهو اسرائيل، فانها تحتاج الى ان تكون اية اتفاقيات تعقد معها موقعة من حكومة صادرة عن برلمان منتخب، حتى ولو كان ذلك الانتخاب منقوصا ومفتعلا ومفروضا. المهم الغطاء الشكلي فحسب.
كل تلك الحسابات واضحة وبسيطة لكن المعادلة الداخلية العراقية هي ابعد ما تكون عن البساطة والوضوح، وقد تتوصل الى قلب جميع المعادلات.