نفرت جنونك ونفرت من حياة بات مصير الكلمة فيها غائما في فضاءات حاضر يضيق وينخفض سقفه يوما بعد يوم.
قلت كلمتك ومشيت، تاركا للبذار ان ينبت او ان يضيع في جوف الارض.
يا الهي كيف يتهاوى الركب واحدا واحدا! كيف يلحق ممدوح عدوان بسعدالله ونوس وكأن في تداعيهما احتجاجا على مسرح تجاوز اللامعقول الى التهريج في الجنازات!
كيف يستنطق الرحيل الذاكرة، ويستعيد الاجواء والمناخات. اراك واراني في المرة الاولى، وحوار طويل خلال مهرجان جرش، فاتحة لصداقة مبدعين لم يحددها عدد مرات اللقاء، بل خصب مضمونها: استرجعك كثيرا، واقف طويلا عند محطتين: واحدة في اتحاد الكتاب العرب في دمشق، وانا اخذ منك شهادة مبدع عن مدينة هي لي وله وليست لنا .. كنت انفذ فيلما وثائقيا عن دمشق، اضيئه بشهادات ابنائها، يا إلهي، حمى الله علي عقلة عرسان، فقد تحدثتم الي يومها هو وانت ونجاتي قصاب حسن. انتما الاخيران لم تعودا الا في الشريط المسجل. اضعه في الفيديو عشية وفاتك، واذكر ان الصديقة حنان قصاب حسن قد قالت لي عندما ذهبت اليها معزية بوالدها: »كم كان جيدا ان يكون معنا له هذا التسجيل بعد وفاته، لقد استعملناه في تأبينه«.
لم ارد ابدا ان اعتقل الحياة في شريط، لا ولا ان اسجل مادة تأبين ، ولم اتخيل يوما ان حياة رجل مثلك يمكن ان تعتقل في زنزانة قبر .
بين اللقاءين كثير من شجن، كثير من اسى وكثير من حماس، لقاءات واصدقاء بينهم دائما زوجتك الرائعة التي لم تكن تفارقك، على عكس الكثيرين من الشعراء، لكأنكما كنتما تدركان ان العمر لن يمد لكما بساطه المشترك طويلا . اراك الان في بيت عبد الله حموده بعد انتهاء حرب 1991 ، وكل واحد فينا يحس جلدة رأسه تسلخ مع بطل قصيدتك الرهيبة ، وليدة الحرب والهزيمة. كلنا ياممدوح العربي الذي يحاول الا يموت والا يسلم روح اللا . هذا العربي ما زال جلده يسلخ، وما زال يصر على عدم الاستسلام من غزة الى الفلوجة. وان هزمه السرطان يوما فسيترك وراءه ما تركت، ما ترك المتنبي قبلك مما يظل مستعصيا على مغول التاريخ ومغول العصر .
عندما اردنا ان نصور شهادتك عن دمشق، عرضنا عليك اكثر من موقع جلوس في قاعات اتحاد الكتاب، وفي مصادفة غريبة قفزت الصدفة الرائعة ان تجلس وحيدا في وسط قاعة المسرح الفارغة، كراسيها الحمراء لون جنونك وتوهج ابداعك. هل كان الفراغ توحدا ام رعبا؟ هل كان المسرح فارغا ام هو في انتظار نص من نصوصك لا فرق ان حكى بلسان زبال او امير او متنب؟ هل كنت انت الجمهور والمبدع والشاهد؟ هل كانت اخر المشاهد التي تنوي ان توقعها هي مشهد انسحابك؟ هل قلت يا ممدوح كل ما لديك؟.
مرة قلت لي: عندما نملأ الوعاء من العين (النبع) هل يمكن للطاسة ان تغرف كل الماء؟ ان هذا الذي يتبقى مستعصيا هو عذاب انتهاء القصيدة؟ قلت لك: اوليس هو خميرة تكوّن القصيدة التالية؟
هل كان الموت تعبيرا عن اليأس من عدم الاكتفاء ام بوابة عبور لقصيدة لا نعرف نحن الاحياء ان نفك رموزها؟ ام انه انصراف عن محاولة الغرف وترك المهمة لسقّاء اخر؟
آه كم بات عطشنا الصحراوي مستعصيا على السقّائين؟ كم باتت طرقات عرباتهم مزروعة بالالغام القاتلة؟
الهذا تركتنا في عز القيظ ايها الصديق؟