ولبيروت ابدا في القلب عرش يفوح منه عطر الايام الخوالي. ايام كان خلخال الاحلام ما يزال يصدر نغما مغناطيسيا لكل الحواس.
لبيروت ابدا عرش مدينة لم تعرف مدينة ما عرفته من جمال ، من حرية ، ومن ابداع. ولم تعرف مدينة ما عرفته من شر وموت ورعب وفساد. هنا رضع الحلم كما لم يرضع حي بن يقظان، وهنا سفح الحلم كما لم يسفح خروف العيد. هنا كانت جميع الاحقاب الذهبية لكل التيارات الثورية والقومية والمقاومة، وهنا تصادمت كلها واحدة بالاخرى في صراع ملحمي تكشف عن قشرة نور تخفي وراءها كتلا من الظلام.
كهذا الزمن الهلامي الكاذب وجودي هنا في فندق وسط شارع الحمراء، وبدعوة من مؤسسة اوروبية تتعاون مع جامعة الدول العربية.
كهذا الزمن الذي لم يعد فيه شيء من حقيقة ومن ملموس، أطأ انا، بصفة ضيف، ارض الشارع الذي التحمت به فتوتي وشبابي نبتت منه جيناتي وخلايا دمي. للمرة الثانية آتي بيروت بدعوة رسمية، واسكن فندقا في شارع الحمراء، ويداهمني الاحساس بانني لست انا ولست اخرى، بل هيكلا مفتعلا ، على مسرح الدمى.
هذا الهنا هناي ، لكنه لم يعد كذلك. وهذه الانا اناه لكنها لم تعد كذلك.
لي مع كل بلاطة في هذا الرصيف حكاية ومع كل حبة اسمنت الشارع (لا اسمنت الشارع الذي عرفني دمرته الحرب ، وهذا الجديد لا يعرفني)
في كل واجهة من هذه الواجهات، في كل مقهى، في كل دار سينما، مومياء ذكرى، اضاعت جرار الاحشاء فاستعصت على العودة الى الحياة. بل هي حية حاضرة: رائحة القهوة ما تزال هي هي تفوح من المودكا، صوت فيروز ينبعث من البيكادللي يتنبا بالشخص وبراجح، معرض وزارة السياحة ينشر اسبوعيا غذاءا حرا للذائقة مكتبة انطوان ترسم صورة ناطقة لخصوصية الثقافة اللبنانية، مزيج من شرق وغرب جناح بالفرنسية واخر بالانكليزية، كوب سلطة الفواكه وبائع المناقيش.. والناس، الناس الهادرون المتسكعون المسرعون المبطئون، كلهم هم هم…
لا تلك احلامك ورائحة الامس ، لا وجوده الحقيقي، لا لونه، لا طعمه، لا رائحته. وها هي الهورس شو وارصفتها بالامس ملتقى كل المفكرين والكتاب والحالمين، المتمردين والثائرين، المصممين والعاملين، تتحول الى مطعم للشاورما ومن ثم الى مكتب سياحي.
وها انت ابنة الشارع وربيبته تخرجين مع منظمة اسمها منظمة التحرير (ولم يكن يومها اسمها الفلسطيني يقتصر على فلسطين) وتعودين ضيفة لمناقشة امور منظمات يسمونها منظمات المجتمع المدني.