قراءة في قراءة تحليل سيميولوجي لصورة صحافية

دراسات - أبحاث، 01-07-2004

Quand les GI sacrifient Abraham en Chaldée, 

قدمت هذه الدراسة بالفرنسية في جامعة باريس الثانية: بانتيون – اساس عام 2004 وتناولت تقرير مصور نشر في مجلة ليبيراسيون بتاريخ 8 ديسمبر 2003:

http://www.liberation.fr/monde/2003/12/08/quand-les-gi-sacrifient-abraham-en-chaldee_454545

 

Untitled

 

قراءة في قراءة

تحليل سيميولوجي لصورة صحافية

د. حياةالحويك عطية

*********

“مجال شعري شعري يكتب فيه الحدث، من جهة، ومعتقداتنا من جهة اخرى”

هذا التعريف الذي يعطيه فريديريك لامبير للصورة الصحافية يفتح الباب لتحليل سيميولوجي لهذه الصورة التي نشرتها مجلة ليبراسيون الفرنسية في 8 ديسمبر 2003 فوق موضوع بعنوان: الجيش الاميركي يضحي بابرهيم في اور كلدان. وعنوان فرعي: قاعدتهم العسكرية المقامة فوق موقع اور الاثريي، تبعد عنه العراقيين، ولا تمنع القبائل التي تنهب المنطقة”

بدءا باختيار الموضوع: مقاربة الازمة العراقية، الاحتلال من خلال موضوع ثقافي بامتياز يقع في قلب سياق الحضارات والثقافات، وليس من خلال الحدث السياسي المباشر (المباشر، حيث ان كل شيء هو في النهاية سياسة) الا “يستغل” هذا الخيار “الواقع الفوتوغرافي” والالسني، كما يستغل المرجعيات والاشارت الدالة ليضع الموضوع في قلب “صراع الحضارات” الذي يشكل البعد الجوهري لهذه الحرب على العراق، وللصراعات الدولية في هذه المرحلة (منذ 11 سبتمبر وحتى احتلال العراق)؟

قبل ان ننتقل الى قراءة نص التقرير تشكل الصورة والعنوان (الرئيسي والفرعي) المستوى الاول للتلقي، للفهم، للقراءة: صورة بالابيض والاسود، للموقع مدمر في منطقة غير ماهولة، وفي العمق، مبنى ما بدونابواب ولا نوافذ، يشبه قلعة عسكرية، جنديان مجهولان، بدون ملامح ( اللقطة ماخوة من الخلف)، في وقفة حراسة واضحة التوتر (وضعية اليد على السلاح). ارض خالية وجنود يحرسون. من؟ وممن؟

انطباع عفوي ينتاب الناظر: ثمة امر خطير قد حدث: تفجير بركاني ، هزة ارضية، كارثة، حرب… طوفان.

للاجابة عل احتمالات القراءة التي تقدمها هذه الصورة ، وحتى لقراءتها بذاتها، ثمة مجموعة اسئلة تطرح نفسها معتمدة على التحليل السيميولوجي الذي ينظر له فريدريك لامبير في كتابه ميتولوجيا الصورة ( ميتوغرافي) ص. 168-169

– هل يكفي التماثل هنا لاستخلاص المرجعية بدون العودة الى اللغة المكتوبة؟

هل هل ان تاثير الواقع، الذي يشكل المستوى التحليلي المقارن يمكن ان يتحقق بتحليل الاطار (الكادر) الاضاءة، الحركة (سواء حركة الكاميرا او حركة الجنديين) للتوصل الى تفكيك الشيفرات التي يمكن ان تكمن وراء قناعها؟

وللوصول اخيرا الى المستوى الثالث: الثقافي، “المعنى” حيث يتوجب على القارىء ان يستدعي جميع المصطلحات الثقافية، الايقونية التي يملكها كي يتمكن من التقاط كل “القيمة الاسطورية” للصورة ويمسك ب “الرسالة الميتوغرافية” التي تعبر عنها. ويبقى السؤال: هل يتوجب ان تسبق الاشكال الكتابة، بحيث يصبح مهمة هذه الاخيرةان تجعلها تتكلم لصالح الرسالة المؤسسة؟

رغم القرابة الغامضة بين بين الشيء والصورة (كما يقول امبيرتو ايكو في مجلة “كومينيكايشن” العدد 29 ص. 157، فان هذه الاخيرة تبقى “رسالة بدون شيفرات”، كما يقول ونفضل القول بانها تبقى حاملة لكم غير كاف من الشيفرات… وذاك ما ياتي ليكمل “الحضور المزدوج، الايقوني او واللغوي” المصدر السابق ص. 43.

انها البلاغة الالسنية للخطاب تاتي لتضع اصبعنا، بحسب تعبير رولان بارت علىالمعنى “المقنع”، الذي يجعل من رسامي ومصوري البورتريه الكبار علماء اسطورة كبار”، لكنها ايضا عملية تبادل، ذهابا وايابا تراتبية بين “الشكل والخطاب”، حيث يشكل الرمز الدال اللفظي والرمز الدال الفوتوغرافي الشيفرات نفسها، او يغني احدهما الاخر، فيسمحان لنا بتفكيك شيفرة الرسالة، يرفع عنها النقاب والبراقع، يبلغ جوهرها، قلبها متبعا نصيحة فوكو .

انه العنوان ( العنصر الاساسي في تشكيل صفحة صحافية) وما يحمله من دلالات لفظية: “عندما” “ابرهيم” “كلدان” “الجيش الاميركي” فعل: “يضحي”.

فحتى لو تبنينا راي رولان بارت في كونالجملةلا تشكل “وحدة اصلية” بل نظاما مشكلا من “تتابع جمل”، فان هذا العنوان يشكل رسالة () طالما ان كلا من هذه المفردات التي تشكله تعتبر شيفرة بحد ذاتها، تاخذ مكانها في الجملة ، بحيث يشكل تتابعها ، ترتيبها بدوره نظاما “يدرجها ، من خلال السياق، في الاسطورة” رولان بارت [1]

وهكذا تصبح الرسالة المباشرة، غير المشفرة: الاحتلال الاميركي، محملة بالدلالات، دلالات محملة بدورها بمرجعيات ثقافية، انسانية ومحملة بتناقضات تغذي بلاغة الخطاب:

ابرهيم، مرجعية لا تقتصر على اللاوعي الجمعي العراقي او الاوروبي (الموضوع والكاتب) بل تستدعي الثقافة البشرية كلها: يهودية مسيحية اسلامية واسطورية حتى لمن لا يؤمن بالاديان، ” العامل الديني غير قابل للاستبدال” بحسب ريجيس دوبريه الذي يصفه ب “الثقب الالتاسيسي”

وتكتمل الميتوغرافيا بدلالتين مترابطتين: “اور كلدان” و”التضحية”، انتقال الضحية الى الانسان.

الانسان + الارض+ الكلمة+ الفعل. وهنا يستعير الكاتب الفعل، فعل التضحية، من سياقه التاريخي الاسطوري ، ليوظفه في سياق حديث اخر، زمن اخر معبر عنه ب “عندما” وحيث يصبح الفاعل مختلفا الجيش الاميركي بدلا من ابرهيم) والمفعول به مختلفا (الانسان والتاريخ العراقي بما فيه تاريخ ابرهيم عبر موقع اور) والمضمون مختلفا،( من اب يضحي بولده لخير الانسان ورضى الله، الى ابن يتابع مسيرة ابيه في التضحية بشعب وتاريخ لتحقيق مصالح، لخدمة اله جديد هو اله اقتصاد السوق”. وحدها الارض هي الواحدة التي تضمن الحق في الاستعارة وتوظيف الميتولوجيا . بل انها تتجاوز دلالتها كمكان لوقوع الحدث مع ابرهيم لتصبح جزءا منه، جزءا من الضحية ، بل الجزء الاساسي فيها . رؤية ميتولوجية سيميولوجية تحيل الى مفهوم اسطوري معروف لدى كل الشعوب القديمة، حيث يشارك الالهة في حروب شعوبهم، ويشكل انتصار شعب انتصارا لالهه على اله الشعب الاخر، وغالبا ما يذبحه او يدمر معبده. دون انننسى ان جورج بوش وضع حربه في سياق قريب عندما اعلن انها حرب الخير على الشر وان الله امره بذلك.

اماالتناقضات التي تحملها الصياغة وتحولها بحد ذاتها الى دلالة فهي ( الجيش الاميركي – ابرهيم ) ( الاسود – الابيض) ( جنود مجولو الهوية ، بدون وجه ، اي بدون ملامح ، حيث التقطت الصورة من الخلف وبدون اضاءة واضحة – موقع معروف وواضح المعالم والهوية والتاريخ ) ( ظل – ضوء) ( حضور بشري اميركي – غياب عراقي ) على ارض عراقية . تناقضات تشكل المعنى والرسالة كضمير مستتر تحدد تقديره المرجعيات الثقافية .

الجيش الاميركي – ابرهيم = الحرب – السلام = امبراطورية محبة وتسامح – امبراطورية حرب وقوة

ابيض- اسود = الخير والشر، شعار حرب جورج بوش. ومن جهة اخرى سيميولوجية فان هذين اللونين يعمقان الايحاء الاسطوري . فاذا كانت الصورة تنتمي الى عالم ما تزال لديه حساسية للاساطير” كما يقول بارت، فان هذا الانتماء يحيلها الى “الحقيقة الاصلية” التي تشكلت بالابيض والاسود وما اللون “الا تحويل متحرك متنوع على الحقيقة الاولى للابيض والاسود”. لكن الاسطورة نفسها تجاوزت في تطورها كونها مجرد ايديولوجية تبسيطية تكتفي بالابيض والاسود، الخير والشر، لتبرر بهما الصراعات والرؤى ، فكيف بالاحرى وقد تجاوزت الحضارة الانسانية كليا هذه الرؤية البدائية.

جنود مجهولو الهوية – موقع محدد. جيش يلخص( ككل جيوش الاحتلال ) اولا الانسان – العسكري بمجرد اداة للقتل للاحتلال والاذلال، يمحو “اناه” ليجعله مجرد رقم ، مما يسهل تجريده من انسانيته. لباسه وصورته من الخلف( بدون وجه) تجعله رمزا مجهول الهوية لجيش، لدولة، لمفهوم معين للحق والقوة. وفي المقلب الاخر الانسان العراقي الغائب ، غياب في الصورة يؤكده العنوان اللغوي : “يبعد عنه العراقيين”. مما يجعل التقابل السيميولوجي بين قوتين وجودين: قوة الجيش المحتل ووجود الجغرافيا، الارض والتاريخ العراقيين. وكانما ثمة رسالة مضمرة تتمثل في ان الارض النتزعت منابنائها ولكن التاريخ بقي حاضرا، متجذرا في الجغرافيا ليثبت حضورا ثقيلا، وازنا، استثنائيا في عمقه. يجعل من التراب والهواء خزانا كبيرا عتيقا، عتق الانسانية الاولى، مليئا بالانفاس والارواح ، بالعيون والدماء والدموع والافراح، والاهم بالابداع المادي والروحي الذي صاغ اساطير الانسانية الاولى ، سواء للاجابة على اسئلة العقل البشري الاولى او لينسج خيوط الهوية عبر خط فكري واضح وضمير جمعي تراكمي كما يرى يونغ ، او لينسج اسطرة حدث تاريخي كما يرى مالينوفسكي او ليبني لغة الرمز كما يرى ايريك فروم ، وفي المحصلة كي يشد اللحمة الحضارية والهوية . رغم ما يمكن ان تحملهمقولة ريجيس دوبريه: “الاسطورة حكيمة، وحده اللاعقلاني يشد اللحمة”.

اخيرا يشكل هذا الموقع الاثري، وبالتالي صورته ايقونة بعدة معان: ايقونة دينية، معرفية، جمالية. بحيث ان تناولها بقماييس علم الايقونات او بمقاييس تحليل المضمون والخطاب ، يقودنا الى 3500 سنة قبل الميلاد حيث ابرهيم وحيث الملكة شوبعاد والوجه المضيء لفتاة اور بحليها البالغة الدقة والرقي الفني، وحيث الزقورة. الم تكن الزقورة ناطحة سحاب عصرها ؟ الا يصبح الاحتلال الاميركي بناءا على ما اصاب هذا الارث الانساني، مدانا بجريمة تحطيم الايقونات؟ الاعتداء على المقدسات الانسانية؟

اخيرا اذا كانت هذه قراءة محلل عربي، ومن الممكن ان يقوم بقراءتها محلل ينتمي الى ثقافة اخرى وفق ما يقوله فريدريك لامبير “عندما انظر الى صورة فوتوغرافية فانني اجد نفسي مضطلعا على للتاريخ الحالي ولكنني اشعر ان ذلك يطلعني ايضا على انتمائي لثقافة معينة”. ورغم ان لامبير يقصد بهذه الرؤية السيكو انتروبولوجيك دور التكرار في تفسير وترجمة الاشكال حيث يضيف ” الصورة تاتي لتؤكد هويتي الثقافية بواسطة تكرار شكل ما اعرف تفسيره “، وهذا ما يقود الى شكل اخر من اشكال التحليل ” السيميولوجيا تسمح لنا بان نرى كيف تكتب مجتمع نفسه في صورة صحافية”.

بناءا على هذا نخلص الى ان مقالة وصورة لوبوان التي يتناولها البحث هي تعبير عن الثقافة المسيحية لدى صحافي اوروبي ، ولكنها ايضا تعبير عن ثقافة قارة قديمة تثمن بل وتقدس الحضلرات الام لتي اسست لثقافتها الحالية (الاغريقية اللاتينية) وعليه فهي تثمن التراث الانساني الذي لا يمكن ان يكون كلاما تجريديا وانما هو اماكن واشياء ملموسة. قد يسرقها ولكنه لا يدمرها (كما حصل في الاستعمار القديم. ” التراث الانساني هو خزان من الاثار القادرة ضمن اطار معين، محلي، اقليمي، انساني، يساهم في الحفاظ على هذا الاطار نفسه …لاننا لا ننقل الا ما استطعنا الحفاظ عليه … لا حضارة بدون مخزن – هنغر- مستودع” يكتب ريجيس دوبريه.

اور لم تكن فقط المخزن، الهنغر، المستودع ، بل هي المهد.

 

1 2 3 4

 

[1]