اجل ان عبد الحليم حافظ ايضا طرف في النظام الاقليمي الجديد، لانه قد يشكل عائقا امام الشرق الاوسط الكبير.
ولا يغير من ذلك الامر شيئا ان يكون الرجل ميتا، فهل كان نبوخذ نصر الذي اشترط الصهاينة استثناءه من بين عظماء العراق المرشحين لان توضع صورهم على العملة، حيا؟
هل عاد الكواكبي من موت السم عندما حذفت نصوصه من المناهج التربوية؟
المشكلة مع هؤلاء الناس انهم لا يموتون – وسبحان الحي الباقي الذي منحهم ما يواكب الحياة مهما سجلت في دفتر يومياتها من الفيّات.
اليوم ذكرى وفاة العندليب الاسمر، وفي باريس اذاعة اسمها اذاعة الشرق: أي شرق؟ لا ادري. لكن اياكم ان تتصوروا ان المقصود بذلك تمييزها عن الغرب، كما نعرف المصطلح، لا فالاخر هنا هو المغرب العربي الذي يسمي اذاعته »مديترانييه« أي المتوسط.
اذاعة الشرق قررت ان تحتفل بذكرى المطرب الكبير فسجنتنا ساعة ونصف مع مذيع لم يكف عن الثرثرة التافهة حول عبد الحليم (حوله لا عنه)، وعن تلقي مكالمات المستمعين التي لا تقول شيئا مهما عنه، دون ان نسمع كلمة واحدة من حواراته، مما كتب عنه النقاد من سيرة حياته، بل اننا لم نسمع بعد نغما واحدا من اغانيه على امل ان الاخ الذي وجد في موت عبد الحليم فرصة لملء فراغ برنامجه وللثرثرة الهاتفية، سيلبي طلبات المستمعين في اخر السهرة بعد ان يكون البعض قد مل مثلي واقفل الراديو.
لكن هذا كله يظل بسيطا واقل اهمية ازاء امرين غريبين:
الاول ان عددا كبيرا من المستمعين طلب الاستماع الى اغاني عبد الحليم الوطنية، بل ان احدهم عبر بغضب عن سخطه على وجود بعض القيود على اذاعة هذه الاغاني، واخر ذكر بان العندليب الاسمر كان يصر على افتتاح جميع حفلاته ب: بحلف بسماها وبترابها. واخرى راحت تذكر بما كان يدور في الشارع غداة اذاعة حفل جديد للمطرب المنتمي.
وهنا يأتي الامر العجيب الثاني وهو ان المذيع تهرب بديبلوماسية من الاستجابة لهذه الطلبات قائلا ان هذه الاغاني اصبحت جزءا من الارشيف، »واذا وجدناها اذعناها«.
قبل ايام كانت احدى الصديقات تقول لي ان هناك قرارا بمنع هذه الاغاني، وليس لحليم وحده، بل ولجميع المطربين العرب الكبار، ولم اصدق.
فهل اصبح عبد الحليم حافظ بدوره ارهابيا، توجب الحرب الاميركية _ الصهيونية على الارهاب منعه؟
هل اصبح كل حس وطني قومي من الارشيف؟
هل اصبح الوطن كله من الارشيف؟
هل اصبحنا كلنا من الارشيف؟
من كان منا حيا كموا فاهُ، ومن كان ميتا سرقوه من قبره ليعيدوا رسم جثته وفق مقاسات وملامح الشرق الاوسط الكبير
مقاسات تقضي بان تصبح ام كلثوم شبه هيفاء وهبي، وعبد الحليم حافظ اشبه بذاك الذي يشوه العروبة وهو يزعق »عربي انا«.
مصادرون نحن هكذا، حتى وفي قبورنا، مصادرون لصالح شركة احتكارية اسمها التتفيه والتمييع، تعمل على تحويلنا الى رخويات عاجزة امام الطوفان التهويدي، مصادرون لنقتل بتلك المصادرة كل يوم، حتى وباسم الاحتفال بذكرانا، الم يمارس معهد العالم العربي قبل اسبوعين مصادرة تافهة مماثلة تجاه فدوى طوقان، التي لم يغبر كفنها بعد، وباسم تكريمها؟
اتركونا نحيا ونموت، بحق الله، بدون احياء ذكرى وبدون تكريم !
يا الهي كم علينا ان نقاوم لنبقى احياء، لنحافظ على حقنا، حتى في الموت كما نريد !
لكن هل الحياة الا تلك المقاومة؟