حملوه، وساروا في طقسية لها اصداؤها العميقة في خبايا الروح…وحملني بعيدا بعيدا، وقريبا قريبا..بعيدا عن باريس وقريبا من الهناك المتجذر اكثر فاكثر هنا بل وانا بل ونحن…
قوة خفية كانت تشدني هذا اليوم الى الذهاب الى صلاة الام المسيح، جناز المسيح كما يقولون، لم ارد كنيسة فرنسية، اردت ان اسمع الطقس الذي اعرفه، بالعربية، ان اتماهى معه وهو يتماهى مع طقس الفداء الكبير المرتفع نشيده من فلسطين الى العراق، من القدس الى كربلاء ومن جنين الى الفلوجة.
زميلتي الفيتنامية تعبر عن رغبتها في ان ترافقنا الى كنيسة سيدة لبنان، وعندما تلمح دمعة تنحدر، تقول لي بحنان : افهم، هي ليست دمعة تدين، فقد بت اعرفك جيدا !!
ربما ياصديقتي تفهمين ما حاولت ان اوضحه لك حول الطقس نفسه وحول ما يعنيه في تراث منطقتنا الاوسع من المسيحية نفسها، وربما تفهمين افضل لانك تنتمين الى طقس تضحية شكل لنا نحن احرار العالم كله، نموذجا ووقودا. ولكن ثمة ما لا يمكنك ان تفهميه، ما هو راسخ في الجينات، جينات الجسد وجينات الروح، وما هو ناتج عن حصاد سنين طويلة من الحفر العميق في مناجم الوعي والذاكرة الجمعية لوطن وبلاد وحضارة.
ثمة ما هو بسيط بسيط، ومستعص على التفسير : الصلاة باللغة العربية، ومعها السريانية، اللحن الكنائسي، الكهنة وهم يكررون حركة السجود، ثم الوقوف، ثم الانحناء والسجود، وهم يرددون الصلاة، تماما كما في مسجد، قراءة الاناجيل التي لم يكتب أي منها بالعبرية، صوت الراهبة ماري تريز كيروز الذي اصبح صوتا عالميا وهو يشق كخيط من حرير جسد الكنيسة، جلدنا، لحمنا ليدخل حتى العظم قائلا: »اليوم علق على خشبة الذي علق الارض على المياه !!«
كلها علامات فارقة على بطاقة هوية المسيح والمسيحية، اللذين تبذل الدوائر الصهيونية كل قدراتها لتهويدهما.
الذي علق الارض على المياه، واول اسطورة خلق في بلادنا – الاينوما ايليش – (كلمتان بابليتان ترجمتهما : عندما لم يكن هناك الا الماء) وهي تعلق الارض على المياه، واخيرا اخرا : »وخلقنا من الماء كل شيء حي «.
خط ديانات الماء الذي يميزه باحثو الانتروبولوجيا عن الخط الهنواوروبي المعروف بخط ديانات النار وعلى رأسه اليهودية.ومن ورائها الخط الفكري الاوروبي.
فيما هو ابسط من الفكر والفلسفة، ها هو الشاب العاري الملتفع بكفنه الابيض محمولا على اكتاف الكهنة والمصلين، يجوبون به الكنيسة ووجهه مكشوف الى اعلى، يا الهي اهي جنازة الفلسطيني الذي قاوم اليهود فقتلوه قبل الفي سنة ام هي جنازة شهيد سقط امس في غزة، في الصراع ذاته؟
ها هم المصلون يتدافعون للمس النعش تبركا، وها هو مشهد مماثل يقفز الى الذاكرة من هناك، من مقام الامام الحسين في كربلاء. في المرتين تراودني دمعة تابى الا ان تتحول الى قشعريرة تجتاح الروح والجسد، امر لا يعود الى الدين وحده، وربما احيانا لا علاقة له بالدين او التدين، انه ذلك الحس الذي يضعك امام رهبتين كبريين: رهبة القوة البخارية التي يمثلها ايمان الناس جماعة، بشيء ما، حتى التضحية.
ورهبة احساسك انت بالابعاد السحيقة التي تمتد فيها جذورك، بالم محاولات انتزاع هذه الجذور.