الى فيصل القاسم.. بلى يا فيصل ! ولكن كيف؟

صحيفة الدستور، 12-04-2004

قرأت مقالك هذا الصباح، نبرتك المعتادة المشاكسة الحادة، وهذه المرة في رفض فكرة الغزو الثقافي.

ترفض الفكرة وتصرخ في وجه القوميين والشيوخ الذين يضجون بها.

بعض الحق وبعض الشطط. ووقفة لا بد منها امام هذه القضية الهامة جدا، جدا!

اخر ما قراته امس قبل النوم بعض اوراق القمة العالمية للاعلام التي عقدت مؤخرا في جنيف: دراستان لارمان ماتلار الاستاذ الكبير في عالمية وعولمة الاعلام ومقال اخر لاينياسيو رامونيه رئيس تحرير لوموند ديبلوماتيك، ومداخلتان مهمتان لرضوان ابو عياش مدير الفضائية الفلسطينية وابراهيم الموسوي من تلفزيون المنار.

ماتلار يعنون ورقته بما يشبه الصرخة : »نحو اعلام اخلاقي« ورامونيه ايضا : »السلطة الخامسة«، عنوان هذا الاخير يعيد الى افتتاحية شهيرة له بعنوان ” سادة العالم الجدد ”

اترى انني ابدأ ردي عليك بمفكرين غربيين، ها انا مصابة بالغزو الثقافي الذي تقول انه بلغنا حتى النخاع؟

لكن ما يشكو منه ماتلار، ورامونيه هو مضمون هذا الغزو الذي تحول الى ما يمكنني ان اسميه : »غزو انساني« بمعنى انه غزو الراسمال العالمي المهيمن لانسانية الانسان، بكل ما تحمله من قيم مشتركة في الشرق والغرب، في المسيحية والاسلام بل وفي البوذية والكنفوشية.

انت تسأل : من قال ان لاميركا ثقافة كي تفرضها علينا؟ وتجيب نفسك : انها ثقافة الدولار والاستهلاك وتستعمل تعبيرا اعجبني جدا : »التنصير الاستهلاكي«.

وهنا تكمن كل المشكلة، فالاستهلاك يفترض تسوية الارض بما عليها من قيم، وتسطيح الانسان كما قطعة (الستيك المدقوقة، وتشييء المفاهيم، وتفتيت البنى الفكرية لتحويلها الى ما يسميه علماء الاعلام والتربية »البازلز الفكري« ونمط اسئلة ضع اشارة صح أو خطأ بدلا من بناء بحث او مناقشة كاملة ممنهجة.

والاستهلاك الذي تحول الى مصلحة محدودة لحفنة من الشركات المتعددة الجنسيات، وحفنة من لوبيهات معينة، هم الذين يسميهم رامونيه »سادة العالم الجدد« هو الذي يفرض ثقافة مفككة واعلاما مفتتا (بكسر التاء) واهتمامات مدمرة، مدمرة قبل كل شيء لانسانية الانسان. طالما انها تخلخل بنيته الفكرية والاخلاقية دون بنية بديلة متماسكة.

انها مشكلة قائمة، ولكن مشكلتنا اننا نفكر اننا وحدنا من ينتبه لها، فعلى سبيل المثال مذ جئت هنا – في المؤسسة الفرنسية لوسائل الاتصال – وانا اسمع من الاساتذة الكبار الشكوى من تتفيه الجنس كفعالية انسانية راقية ومحترمة وتحويله الى طوفان سلعي رخيص، في الاعلام والاعلان والفن وجميع وسائل الاتصال، وتتفيه المرأة- والان بدا دور الرجل ايضا – كمجرد اداة في عملية التسليع هذه.

واذا كنت اخذت هذا المثال على وجه التحديد فلاننا نحن في العالم العربي نعتقد بان هذا المجال هو الاكثر افتراقا بيننا وبين الغرب، وان الوحيدين الحريصين على مكافحة الاباحية الجنسية هم المتدينون.

صحيح ان المقاربة تختلف، فهنا الانطلاق من الحلال والحرام، وهناك الانطلاق من احترام القيمة الانسانية، ولكن اليس هذا الاحترام في اساس الاباحة والتحريم؟

و السؤال: ماذا يستطيع المفكرون والمثقفون وفلاسفة علم الاخلاق ازاء زحف الغول المدجج بالدولار؟ وهل الادارة الاميركية السياسية شيئا غير ممثلي الشركات واللوبيهات؟ هل استفاد احد من احتلال العراق اكثر من شركة هاليبرتون لصاحبها ديك تشيني ن وشركات النفط لاصحابها جورج بوش وكونداليزا رايس؟

المساللة صعبة، والمفكرون يعتبرون اننا نحن اهل الاعلام اكثر الناس قدرة على التاثير، وان كان بعض علماء الاعلام يرون هذا التاثير محدودا لاسباب لا مجال لتناولها في مقال.

من قال ان اميركا لديها ثقافة كي تصدرها لنا؟

المشكلة هنا في هذه اللاثقافة، في هذه المنظومة القيمية المبنية كلها على نظرية المنفعة ولا شيء سواها. انها ثقافة وثقافة خطيرة نبتلعها نحن كما السم.

وليست المشكلة ابدا فيما ناخذه من منجزات الثورة الصناعية او التقنية، ليست المشكلة في لون الحطة -الكوفية – التي اضعها وانما في قدرتي على صناعتها وفي الراس الذي احمله تحتها.

ماذا انتجت ثقافتنا؟ هل تقصد الماضي ام الحاضر؟ انتجت ككل الحضارات الكبرى دورها في مسيرة الحضارة الانسانية، وعلينا الان ان نتطلع الى استئناف ولو متهجىء لهذا الدور.استئناف يعترف الحكماء في الغرب نفسه بالحاجة اليه.

اخيرا ذكرت في اول ردي عليك رضوان ابو عياش بعد ارمان ماتلار، وما جعلني افعل اشارته في كلمته في جنيف الى ان مناقشة قضايا الاعلام بشكل تقني يفصلها عن الواقع هو مجرد سفسطة، والى محدودية المفاهيم حين يتم ربطها بالاعلام فحسب، فلا يمكن ان اكون حرا كصحفي اذا لم اكن حرا كانسان، وانتهى بالحديث عن الغزو الثقافي في ظل الاحتلال. الاحتلال، اليس بحد ذاته غزوا رهيبا نتعرض له كما لم تعد هناك امة في العالم، الا تعتقد انه يحتاج لفرضه وتحقيق اهدافه الى تسوية الارض ثقافيا؟ الا تعتقد انه لا يستطيع ان يسمح باية عملية نهوض ثقافي؟ الا ترى ان احد اشهر تعريفات الثقافة في معجم العلوم الاجتماعية، انها ” مجمل انشطة المجتمع في سعيه لامتلاك وسائل انتاجه؟«.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون