يقول فرانسيس بال، عالم الاجتماع الفرنسي الكبير المتخصص بسوسيولوجية وسائل الاتصال، ان هذه الوسائل اعلنت ولادة القرون قبل ولادتها الحقيقية بفترة، فالقرن التاسع عشر قد ولد اتصاليا قبل ولادته على الروزنامة ومثله القرن العشرين، ذاك ان اختراع التلغراف عام 1790 على يد الفرنسي كلود شاب قد ارسل مع اول رسالة نقلها الجهاز الجديد من مدينة ليل الى مدينة باريس عام ،1794 نبأ ولادة قرن جديد، مكرسا العصر الصناعي الاوروبي.
كذلك جاءت سيمفونية من الاختراعات الاتصالية لتحيي ولادة القرن العشرين : التلفون على يد غراهام غريل عام ،1876 و السينما على يد الاخوين لوميير عام ،1895 ثم وبعد عام واحد اللاسلكي على يد ماركوني .
اما القرن الواحد والعشرين، فقد شهد اعلان ولادته تحولا ثوريا كبيرا : اذ مررنا من المنشد الفرد الى الجوقة، فالى ثورة اتصالية شارك فيها الجمهور الكبير الواسع الذي منحته الثورة التقنية مجالات غير مسبوقة في فرص الاتصال. سواء عبر المعلوماتية، او بفضل الاقمار الاصطناعية. لتشكل كلها السرير الذي ولد عليه القرن الجديد.
غير ان فرانسيس بال يرى ان السرير الحقيقي الخطير انما هو التلفزيون لانه كان سرير الموت وسرير الولادة في ان واحد، لذا يظل وسيلة الاتصال الرئيسية التي ميزت القرن العشرين، والتي ستستمر في هيمنتها في القرن الواحد والعشرين مستفيدة من كل ما سبق ومن كل ما يستجد.
لقد صعد التلفزيون ذ يقول بال – فوق ما بناه اسلافه: الصحافة والسينما والراديو ـ فرض عليهم قوانينه سواء فيما يخص الاخبار او برامج التسلية، لكنه بالمقابل فتح لكل منهم مجالات مهنية جديدة، ادوارا جديدة، ولذلك كان هو الميديا الرئيسية في القرن العشرين، فعلى صوره انتهى هذا القرن وبدا القرن الجديد الاخر : جدار برلين، تفكك الاتحاد السوفييتي، وحرب الخليج.
نتأمل ونتوقف كثيرا عند سؤالين :
اذا كان مخاض القرون الانسانية قد تتالى بهذا الشكل الغريب، لكانما كل قرن يحمل بالذي يليه، وكانما المراحل الحضارية هي اشبه ببعض الكائنات التي متى لقحت ماتت. واذا كانت كل مرحلة من التي ذكرنا قد وسمت عصرا من عصور الحضارة الانسانية، من العصر الصناعي الى عصر الاتصال الى عصر الثورة التقنية، فاين نحن كعرب من هذه السيرورة ؟
نحن الذين لم ندخل العصر الصناعي بعد، وكلما حاولنا ان ندخله جاء هذا الغرب نفسه يكسر يدنا ورجلنا، وبسرعة ننكسر لان هشاشة البنية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية تضعف صلابتنا ومناعتنا الى اين نسير ؟
فمن محمد علي الى عبد الناصر الى صدام حسين، كان قدر مشروع الالتحاق بالعصر التكسر على جدارين ساحقين : التامر الغربي، وهشاشة الوضع الداخلي الناجمة عن عدم استناد المشروع الى بنية انسان قوي متفتح في اجواء الوعي والحرية والتطور، وعن عدم تحول المشروع من حلم في راس فرد او نخبة محدودة الى خيار وطني شعبي عام. بل ان الصراع يتشكل داخل النخبة نفسها بين الواعين الحقيقين وبين الادعياء والمستغلين والقامعين الذين يدمرون كل شيء. في حين تبقى الغالبية العظمى من الناس خارج اللعبة كلها، وضع تبقى فيه عندما يتعرض الوضع للهجمة الخارجية كما حصل في العراق.
والسؤال : من اين نبدا ؟ من الانسان، أي انسان وهل من مسيرة بدون قيادة ؟ بدون مشروع ؟ ما هو مشروعنا الان ؟
السؤال المتفرع اسئلة لا نهاية لها يلتحم بسؤال كبير اخر، متخصص:
اذا كان اخر التحليل الاجتماعي حول دور الاتصالات قد انصب على نقطتين مهمتين : دور التلفزيون ومن ثم الاحداث الثلاثة التي اعتبرت ملامح موت القرن الماضي وولادة القرن الجديد، وفي صلبها حرب الخليج . فاي دور كبير لعبه التلفزيون في حرب الخليج ؟ وكيف ؟
بالنسبة للتساؤل الاول : أي دور ؟ قد لايحتاج الامر الى عبقرية لان كل مواطن عربي يعرف صينية الطعام التي بات يحملها الى امام التلفزيون كي لا تفوته كلمة او صورة. وكلنا يعرف من داخله وممن حوله تاثير هذه الشاشة الجهنمية.
اما السؤال الثاني: كيف ؟ فهو المحطة الخطيرة التي تؤشر الى المسافة الفاصلة بين السكر ومعرفة تفاصيل تاثير الخمر، بين سقوط المطر ومعرفة التفاعلات الجوية الكبيرة التي توصل اليه .
وهل كان الذين خططوا للحرب جاهلين لكون الصورة التلفزيونية قد اصبحت واحدة من اهم اسلحة المعركة ؟
هل كانت الصدفة وحدها هي التي حددت مواعيد ولادة العدد الاكبر من الفضائيات العربية؟