في جنوب لبنان يذكر الناس حكاية حقيقية، لكنها ايضا طرفة حقيقية تعود الى فترة تقاسم الاقطاعيين السلطة التشريعية والتنفيذية بعد الاستقلال، ومفادها ان احد هؤلاء عين وزيرا للتربية، فقام – كما هي العادة – بتعيين جميع اقربائه ومحازبيه في الوزارة المذكورة، وبما ان تعيينات المدرسين لم تكن تخضع لاية امتحانات، ولا تشترط ابراز اية شهادات رسمية، فقد عين رجلا اميا في وظيفة مدرس، وطلب من مدير المدرسة تكليفه بعمل الناظر كي لا ينكشف امر اميته، وبعد فترة ضجت الاوساط اللبنانية المختلفة بوجود الكثير من الاميين او اشباه الاميين في الجهاز التربوي الرسمي واضطرت الحكومة الى اخضاع جميع العاملين فيه الى امتحان مستوى يتقرر بناء عليه بقاؤهم او صرفهم.
الناظر المذكور اصيب بالهلع وركض الى »زعيمه« مستغيثا، لكن الاخير رد عليه باسترخاء هادىء : »لا تخف يا بني، لم انسك، وقد عيناك في اللجنة الفاحصة!!«
تذكرت هذه القصة وانا اقرأ عن اللجنة التي شكلها جورج بوش للتحقيق بشأن المعلومات التي استعملت لتبرير العدوان على العراق واحتلاله، حيث وجه الشبه تام بين اقطاعية محلية لم تنته لكنها اصبحت مقنعة الى حد ما بعد تدفق الشهادات العلمية، وان لم تكن لها علاقة بمستوى الكفاءة والاخلاق الوظيفية، وبين اقطاعية دولية تربع الشريف الاميركي على سدتها. وزاد من اوجه الشبه عدد الـ »المان« الذين تغص بهم صفوف اللجنة كما صفوف المسؤولين في سلطة الاحتلال في العراق، من سيلفرمان الى سيلبرمان الى ستودمان الى عدد كبير اخر من اخوانهم، وجاءت اعتراضات المعارضة الديمقراطية حول نزاهة اللجنة وصلاحياتها المحدودة جدا لتؤكد على انها لجنة لطمس الحقيقة لا لكشفها.
لكن سؤالا دقيقا يطرح نفسه هنا : هل كان الامر يحتاج الى فضيحة والى لجنة لمعرفة ان ما استند اليه بوش وبلير مجرد اكاذيب ؟
اهي وكالة الاستخبارات المركزية من كذبت على الرئيس وفريقه بهذه البساطة، ام ان ما يعرفه ابسط متابع سياسي، هو ان قرار احتلال العراق والتخلص من أي حكم وطني فيه هو قرار سابق على اية تقارير واية عمليات تفتيش، بل ان عمليات التفتيش وتدمير الاسلحة والحصار لم تكن الا مرحلة في المعركة الكبرى التي بدأت بالحرب العراقية الايرانية كعملية اضعاف في مرحلة اولى، ثم انتقلت الى مرحلة تفعيل الازمة بين العراق والكويت كمرحلة ثانية لتصل الى الاجتياح العراقي المبرر للتدخل الاميركي، في مرحلة ثانية، لتنتقل الى الحصار وتدمير الاسلحة والاقتصاد ومؤسسات الدولة والاهم – الناس – كمرحلة ثالثة، كي يصل الامر الى المرحلة الرابعة والنهائية أي الاحتلال باقل ثمن واسهل حرب.
هكذا سيكتب التاريخ قصة الحرب بعد سنين ويحفظها لاحفادنا في صفحة او اكثر بقليل كما كنا نحن ندرس المعارك المتتالية في أي صراع تاريخي.
لكن التاريخ سيكتب ايضا ان المرحلة الخامسة التي لم يكن يتوقعها الاميركي، بهذه الحدة هي مرحلة المقاومة، لكن موجهه الذي يعمل في »الغرف المظلمة« على حد تعبير امام مسجد ابو حنيفة في بغداد، أي المخطط اليهودي الصهيوني كان يعرف ذلك جيدا، ويقيس على تجربته في فلسطين ولبنان، ولذلك فلا بد انه وضع الخطط المقابلة وفي مقدمتها خطة اثارة الحرب الاهلية، اذا ما تعذر اخماد المقاومة، لتحويل عملية التدمير الى سياق التدمير الذاتي. لقد نجح الرهان الاول، رهان الاحتلال، وفشل الرهان الثاني، رهان الاستكانة (الذي لم يكن يتوقعه الا سذج الاميركيين) فماذا سيكون مصير الرهان الثالث؟
هذا ما ينتظر التاريخ جوابه وريشته في يده، ودواة الدم العربي امامه.
الاقطاعية في لبنان لم تنته لكنها اصبحت مقنعة الى حد ما، وحشو الوزارة او المؤسسة المعنية بالاقارب والمحازبين لم يزل مسلك الكثيرين ممن يسعفهم الحظ في الوصول الى سدتها، حتى ولو ان تدفق الشهادات العلمية سهل الامر اكثر وخفف من شان الفضيحة وان لم يكن لتلك الشهادات علاقة بمستوى الكفاءة المهنية والاخلاقية الوظيفية.
لكن اقطاعية اخرى، اكبر واخطر، تشكلت على المستوى الدولي، لتتبوأ الولا