مفارقات وخطاب

صحيفة الدستور، 15-01-2004

سواء كان رئيس الوزراء الفلسطيني ينفذ مناورة سياسية ناجحة وهو يدعو الى اقامة دولة ثنائية القومية في فلسطين، ام انه كان يعني ما يقول، فان دعوته تلك المرفوضة من قبل العرب الفلسطينيين، على اعتبار ان هؤلاء يعتبرون ان حقوقهم تتجاوز المساواة في الحقوق مع كل يهودي قادم من كل ناحية في العالم، هي دعوة محرجة للدولة العبرية التي تصر على كونها دولة اليهود ونقطة.

ولعل المفارقة الغريبة التي رافقت هذا الاعلان، هي اعلان الادارة الاميركية في العراق عن تبنيها لخيار الكونفدرالية في العراق.

مفارقة تحمل اكثر من دلالة مهمة: اولها هذا الطابع العنصري للفكر الاميركي- الصهيوني في مقابل الطابع الانساني التعددي للعقلية العربية، وذاك امر مرتبط بالتاريخ والايديولوجيا وخصوصيات الشعوب كما انه مرتبط بالمصالح الاستعمارية. فالعرب وعلى امتداد عصور حضارتهم، سواء في المرحلة العربية الاسلامية ام قبلها، اعتادوا دائما على التعايش الديني والعرقي في اطار من التعددية المتسامحة التي شملت حتى اليهود انفسهم، في حين ان الفكر الصهيوني يقوم على ايديولوجيا النقاء العرقي الديني معا وبناء عليه على التمييز والفصل العنصريين.

وفي حين ان تركيبة المجتمع الاميركي تفرض عليه ان يتبنى خيار التعددية لانه مجتمع مكون من فسيفساء من الاعراق والاديان. فانه لم يستطع ان ينسى انه انما قام على التطهير العرقي الذي حصد الهنود الحمر وعلى استعباد السود الذين القى على اكتافهم نير مصالحه السوداء. وهو الان اذ يرهن استمرار رخائه الاقتصادي بهيمنته السياسية الاستعمارية اللانسانية انما يسلك لذلك طريق التمييز العرقي الديني داخل المجتمعات التي يحتلها ويسعى الى تفتيتها.

فالعراق الذي كان على امتداد العصور مجتمعا واحدا تشكل تعدديته مصدرا من مصادر ثرائه، والذي كان منذ فجر التاريخ دولة موحدة بكل ما تعنيه الكلمة والصفة، يقرر له بريمر الذي لاندري من اين جاء جده المستوطن الى العالم الجديد، ان يكون فدرالية، بل ويقرر ان لاشيء سواها يصلح للعراق، وهكذا يكون معنى الديمقراطية الاميركية ان يقرر بريمر عن الشعب العراقي مصير بلادهم، كأنهم لم يكونوا يوما اكثر من الهنود الحمر. ولم يتكفلوا بارضاع الحضارة الانسانية منذ شهقتها الاولى.

اما فلسطين فيجب ان تكون دولة اليهود النقية، التي يعتبر كل حديث عن التعددية او المساواة اعتداء عليها. واذا كان هذا المسلك العنصري العدواني المصادر لكل الحقوق والقيم قد تمايز في مصدره بداية، حيث صدر عند الصهاينة عن ايديولوجيا في حين صدر لدى الاميركيين عن مصلحة فان الامور سرعان ما تقاطعت وتمازجت حتى وصلت حد التماهي الكامل مع المحافظين الجدد الاكثر عنصرية من اليهود، ليصبح احتلال العراق وفلسطين احتلالا واحدا، يوحد بالاحتلال واقعا قوميا فتتته السياسة، ويثبت ذلك الاحتلال بمضاعفة التفتيت الداخلي.

واذا كان لموقف بريمر واسرائيل من رسائل فان ابلغها هي تلك التي تقول ان كل عملية تجزئة عرقية ام طائفية ام اقليمية في العالم العربي انما هي عملية خلق واقع يبرر العنصرية الصهيونية ويجعلها منسجمة مع المحيط، بل يجعله قسرا منسجما معها.

من هنا فان ما يجب ان يؤدي اليه هذا التحليل الذي قد نعرفه جميعا هو وعي كل مواطن ان مساهمته في اية حالة اقيمية ام طائفية ام اثنية لا تصب الا في صالح اسرائيل، وفي مسرب فنائنا.

كما انه تحليل يضع لنا اسس خطاب سياسي يجب ان نتوجه به للاخر، الذي يمكننا ان نلامس لديه وترين: الاول هو وتر قيم التعددية والعداء للعنصرية، والثاني هو هو وتر الخطر الذي سيشكله تاجج هذه النار على مجتمعاته هو، المكونة بدورها من تعدديات قابلة للانفجار.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون