يمضون.. نمضي.. وتنقضي في زحمة ضجيج الحياة، حياة كانت ملأى بالضجيج.
ضجيج مختلف، مثمر، مولّد، ومستعصٍ على الموت..
يصمتون، يهدأون، تقف القدمان المدمنتان على السباق، ويسبل كل شيء، اليدان، الرموش، الجفان و.. القلب.
ويحمل، قلة من الاوفياء للابداع، والاهل، كيانا حمل هموم الكل: الانسان، الوطن، والانسانية.. وتحول في لحظة الى شيء عائد الى كينونته الاولى: التراب.
لكن كينونة اخرى، تلك التي صنعها من انفسهم هؤلاء المختلفون، تبقى، مستعصية على اية عودة الى اللاشيء، ملتحمة بذلك النهر الاسطوري العظيم المتدفق ابدا منذ بدء الخليقة، حافرا مجرى التراث الانساني ومكونا له.
واحد كبير واريناه امس، واخر سنواريه غدا.
امس استاذ عملاق، لم تنهمر من اصابعه المثمرة كتب جاوزت عدد عمر قرن، فحسب، وانما انهمر منها ايضا عشرات الباحثين والمبدعين، الذين كان لهم احسان عباس مرجعا ومدرسة واستاذا مباشرا وناقدا وشاحنا، بانيا ومشذبا.
ملامح شخصية فذة، من امتع تجاربي المهنية، ايام قضيتها في تسجيلها عبر فيلم وثائقي لحساب فضائية دبي، عام 1993.
من التحضير والاعداد، الى التصوير، ايام برفقة شيخ متعاون بتواضع مذهل، صبور لا يغضب الا اذا طالت مدة تسليط الكشّاف على عينيه المريضتين، ولا يشتكي من الانتقال بين مواقع التصوير: من البيت الى الجامعة الاردنية، ومن مكتبه الى الدروب.
ومعنا في كل ذلك معنى الشقيق، المساعد، السكرتير، العينين والذاكرة..
ساعات طويلة سجلت حديثه ووثائقه عن جميع مراحل حياته الثرة، عن كل نتاجه البحثي والابداعي »وربما للمرة الاولى عن شعره« عن حياته الخاصة، عن المرأة، وعن الذات. ساعات، لم نستعمل منها في المونتاج الا خمسا واربعين دقيقة فقط، فحبذا لو بادرت الجهة التي ما تزال تملك الاصول الكاملة الى الافادة منها.
وغدا شاعر حمل مذ خرج من المخيم حقيبة على كتفه، فيها جنونه وتوقه وأمه حمدة: مصدره الوحيد ولعلها انتماؤه الحقيقي الوحيد.
في الطائرة المقلعة من عمان الى صنعاء عام 1989 قال لي محمد القيسي: سأقدم في المؤتمر شهادة »امي حمدة«..
ان لم تكن ورقتك في الجلسة ذاتها؟
هل تعدينني بأن تراقبي لي الترجمة الفورية؟ وفي مؤتمر الحوار الشعري العربي الاوروبي في جامعة صنعاء اثارت ورقته نقاشا جميلا، وصل الى المرأة في مطلق الشاعر واسر لي: أأقول ان كل النساء عندي تعويض منسوخ عن امرأة واحدة احببتها.. هي وأمي حمدة تلخصان المرأة.
سمعه البياتي، وسأل بخبث: وفلسطين؟
فأجاب: المفارقة ان فلسطين ايضا اسم مؤنث.
لم يكن شغب محمد القيسي، توتره الدائم جنوحه المتفلت، ليتركا حوله ذاك الود المالىء لفضاء احسان عباس، اذ لم يكن لجنون الشاعر المتمرد هدوء الباحث العاقل، لكنهما تركا لنا، نحن الورثة المكلفين، ارثا كبيرا.. كبيرا.. لا نحتاج لوصية او رابطة دم لاثبات الحق فيه او تحمل المسؤولية ازاءه..
ارث مر.. في وطن يعيش فيه السماسرة والمومسات، ويموت فيه الشعراء والمبدعون لتعذر العلاج.