»العراق هو شيء اخر، اكبر من نظام قمعي سابق، اكبر من دولة مارقة، هو ليس فقط مسرح الصراعات، والتجاوزات. انه بلد التاريخ، بلد مميز، وشعبه مميز«.
لم يكن مسموحا لهذه الرؤية ان تستقر على ارض العراق المحتل، ولا ان تشكل اساسا لادارة شؤون البلاد التي ظل اليهود يدعون عليها بالخراب اكثر من الفي سنة، وقرر الاميركيون يوما ان يعيدوها الى العصر ما قبل الصناعي، كما قال جيمس بيكر لطارق عزيز عام 1991.
لم يكن مسموحا للديبلوماسي البرازيلي حامل الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون، وصاحب سجل النجاحات المتراكمة في الامم المتحدة، خاصة على صعيد حقوق الانسان، ان يشارك في ادارة العراق المحتل، لان مشاركته ستنبع حتما من تركيبته هذه التي تتناقض كليا مع المخطط الصهيوني – الاميركي لبلاد نبوخذ نصر.
فمحدثو النعمة حضاريا، اولاد العم سام، لا يرون في العراق الا نفطه وثرواته وموقعه كقاعدة عسكرية في مواجهة آسيا.
وعريقو الحقد الحضاري، الصهاينة المتحكمون كليا بالقرار الاميركي، لا يرون في العراق، الا القاعدة الخلفية، الجدار الاستنادي الاساسي في تحدي اسرائىل الكبرى، او سوريا الكبرى.
تحدٍ لا يمكن حسمه الا بتدمير العراق، بتهويده، باستكمال فكي الكماشة عبر اسقاطه.
واذا كان رمز التقاء رأس الافعى بذنبها، هو رمز اكتمال الدائرة الصهيونية فإن ترجمة ذلك هي التقاء احتلال فلسطين باحتلال العراق.
لكن المسألة ليست بهذه البساطة، بمعنى ان السهولة التي تم بها انتصار الغزاة في الحرب النظامية، ليست هي السهولة التي تؤمن استقرار سيطرتهم على البلد وتنفيذ مخططهم. فهذا الشعب الذي سطر القادسية ووضع قبلها بصمته على السبي البابلي، وتمكن من الانتصار بعدها على الجيش الايراني القوي، لن يعدم قدرات مقاومة طويلة النفس قاسية القبضة في وجه المحتل الاميركي والزحف الاسرائىلي.
واذا كان من الممكن للاميركيين ان يجدوا صيغة ما، يحلون عبرها حكومة محلية متعاونة معهم، تحقق مقولة اللورد كريمر »سأحكم من يحكم مصر« فأنه من الاصعب بكثير فرض عملية تهويد العراق على العراقيين، حتى من كان منهم معاديا لنظام صدام حسين.
فقبل صدام حسين، عرف العراق اكثر من حكم، لم يكن اي منها اقل التزاما بقضية الصراع العربي – الاسرائىلي. ولم يتوان اي منها عن ارسال الجيش العراقي الى مقدمة جميع معاركنا مع هذا العدو.
واذا كان من المتفق عليه ان الديمقراطية والحرية تشكلان مصدر قوة لاي مجتمع فان النتيجة المنطقية الحتمية هي ان من ليس في مصلحته ان يقوى العراق لن يكون في مصلحته اطلاقا السماح بدمقرطته او حريته او تأصيله او علمنته. بل ان المطلوب في هذه الحال هو تفعيل جميع عوامل التفجير، من فئوية وعرقية وطائفية.
وبذا تكون الحرب الاهلية العراقية مطلبا اسرائىليا صهيونيا مفروضا حتى على الاميركيين والامم المتحدة.
لاننا اذا ما حللنا الامور عميقا وجدنا ان ثمة تضاربا هنا، فالمصلحة الاميركية الاقتصادية والاستراتيجية تحتاج الى استقرار البلد ووحدته لتسهيل الاستثمارات والحصاد السياسي، ومصلحة الامم المتحدة ومن ورائها المجتمع الدولي تقضي باعادة الامن والنظام الى بلد مؤسس لهذه المنظمة، ويلعب وضعه دورا اساسيا في الاستقرار العالمي.
اما مصلحة اسرائىل فهي عكس ذلك!! اشعال نار الفتنة، واذكاء عملية التدمير الذاتي على النمط اللبناني مضاعفا مرات.
واخيرا فإن مصلحة العراق وامته والعرب: كيانا ووجودا وبقاء هي غير هذا وغير ذاك هي تفعيل المقاومة الشعبية للاحتلال وصولا الى تحرير البلد واستعادة سيادته على ارضه وشعبه وثرواته وحكومته الوطنية.
واذا كان هذاالامل يبدو للبعض حلما مستحيلا، فليتذكروا ان حرب السبعة عشر عاما المدمرة في لبنان واجتياح 1982 افرزا ما لم يكن متوقعا في جنوبه.. مقاومة وطنية حققت التحرير.