ثمة شخصيات فريدة، تضعها الايام في طريقك، لتحمل لها ما عشت احساسا بالامتنان العميق، لا لمعروف تقليدي تسديه لك، وانما لشيء اغلى من اي عطاء آخر، شيء يتلخص في ثلاث كلمات : التفاؤل، التطور والشباب.
ثلاث مترابطة احداها بالاخرى ولا علاقة لها لا بسهولة الحياة، ولا بالمظاهر التافهة، ولا بالعمر.
وللمفارقة فان ثلاث شخصيات عرفتها، وعلى فترات متباعدة، جسدت لي هذا العطاء : الاميرة فخر النسا زيد، الدكتور نقولا زيادة والدكتورة الشاعرة الناقدة سلمى الخضرا الجيوسي.
عن الاولى كتبت مرة »الصبية ذات الثمانين« وكنت اسجل بذلك حقيقة الحرارة التي كانت، تلك الفنانة المبدعة، تدفعها في شراييننا نحن الشابات اللواتي جئنها ليتعلمن على يدها الفن التشكيلي، اما عمليا للرسم واما نظريا للنقد.
حرارة تنبعث من روحها الشغوفة بالابداع، بالجمال، بالتطور والتطوير، بالتعليم، في ثراء يقترن فيه ولع المبدع بعمق الفيلسوف، عشق الحياة بعشق الناس الذين يجملون الحياة، وجشع متعلم لا يشبع بسخاء معلم لا يسعده الا نقل علمه بدون حدود.
بعدها شهدت ذلك النموذج في نقولا زيادة، عرفته منذ زمن وعندما دعتني صديقة قبل اشهر الى حفل بمناسبة حصولها على الدكتوراه ، قالت لي انها على شرف الدكتور زيادة لانه اشرف على رسالتي .
سألتها : اما زال صاحب الخمس والتسعين سنة قادرا على الاشراف المتعب؟… وجاءني الرد مساء، اكثرنا اناقة، اكثرنا مرحا واكثرنا شبابا .. اكل من كل شيء، ولم يفلت الكأس، وخلط حديث العلم بحديث الذكريات بسلسلة لم تنقطع من النكات آخرها عن نفسه : ذهبت الى السفارة الاميركية اطلب تأشيرة، وعندما رأت الفتاة تاريخ ميلادي، قالت : لسنة واحدة، فأجبت عفويا : لا لخمس سنوات .. نظرت الي باستغراب فانفجرت ضاحكا وقلت : اجل سأعيش حتى المئة!… وكما انا ..
واخيرا، سلمى الخضرا الجيوسي، صديقتي الحميمة، انا صديقة بناتها .. لا نلتقي الا وتمطرني بمشاريعها الرائعة، ولا تتركني اشعر مرة واحدة بأنني اصغر منها، رغم انها تكرر دائما : انت ما زلت صغيرة امامك الكثير لتفعليه.
خاصة عندما حدثتها عن نيتي استكمال الدكتوراه في الاعلام .. ولا ادري كيف مسحت كل ترددي وكررت لي عبارة : لا تخافي من اي شيء او شخص يدفعك الى الافضل .. ولا تفكري ابدا في السن .. ثم انك ما زلت صغيرة.
اعرف انني لست صغيرة، ولكنني اعرف ايضا، من معايشتي لهؤلاء الناس ان فسحة الانجاز مفتوحة ابدا امام الاحياء، وان من يمتلك في داخله شحنة ابداع او حس مبدع حقيقي، يتجوهر اكثر، ويشعر بالشباب والسعادة الحقيقيين ، كلما فجر تلك الشحنة وارضى ذلك الحس لانهما … هي وهو لعينين قاسيتين حد الخنق، ان خنقناهما، ومبهجان حد الفرح المحلق ان اطلقناهما.
ولان ثمة معطى آخر، لدى هؤلاء المبتلين، او المسعدين بهذه الروح، يجعلهم كالمرأة المرضع، كلما اعطت استراحت واطمأنت، وابتهجت، واكتنز ثديها من جديد بالحليب دون ان يكون شرط ذلك انعدام المصاعب فنماذجي الثلاثة هؤلاء من الناس الذين عاشوا اصعب المعاناة، بل والمصائب، سواء في حياتهم الخاصة او العامة.
لكن من يغرف كيف يغرف ليأخذ، وكيف يغرف ليعطي، كيف يعيد صياغة الحياة ابداعا، يرويه ويروي الآخرين، كيف يترفع عن المتع الرخيصة، او متعة قرص المنوم والمخدر، ليسقي نبتة جسده وروحه متعا حقيقية لا اعراض جانبية لها، كيف يقزّم همه الخاص اذ يعطيه موقعه المجهري على خريطة الهم العام وهموم الاخرين، كيف يقدم على ما يرضي نداءه الداخلي ويترك النهر يجري ليتطاير رذاذه فيعشب الارض على الجانبين.
هو من يعمل بالمثل الفرنسي القائل : »لا يمكننا ان نعيش اكثر، ولكن يمكننا ان نعيش افضل«.