لشيء غير الفن…

صحيفة الدستور، 18-08-2003

ليست المرة الاولى التي يخصص فيها برنامج تلفزيوني لمنافسة بين مجموعة من هواة الطرب، ليخلص الى فائز رئيسي او اكثر.. يكرسون نجوما على ساحة الغناء العربي. فمنذ اكثر من ربع قرن وهذا التقليد يتكرر على شاشة التلفزيون في لبنان، ولا يمكن لاحد ان ينسى العام المميز الذي خرجت منه ماجدة الرومي ووليد توفيق ونهاد فتوح.

كما لايمكن لاحد ان يدعي انه لا يجد متعة في الفرح الذي يبعثه الغناء والطرب وهذا النوع من البرامج الخفيفة والممتعة التي نحتاجها واحة رطبة وسط قيظ الحياة.

كما لا ننكر بانها تؤسس لفن حقيقي وجيل جديد من المطربين بعيد عن التفاهة وتخريب الذوق العام اللذين يقترفهما السيل الجارف من الذين يغنون لغايات فيها كل شيء الا الفن.

لكن ما حصل ويحصل هذا العام، ازاء برنامج سوبر ستار هو شيء استثنائي وغريب يقرب من الهستيريا… ويتركنا نسأل لماذا ؟

فالصبيتان المتنافستان الآن لا تثيران المفاجأة المذهلة التي كانتها عام 1975 ابنة الخمسة عشر عاما وهي تبدع وتتجوهر في اصعب اغنية لاصعب مطربة: »ليالي الانس في فيينا« لاسمهان، ويعلق الجميع بانها ان تكن قد ورثت الدقة في الاداء من الاب الملحن الكبير حليم الرومي، فان صوتها الاوبرالي النادر وحضورها المحبب والراقي هما موهبة استثنائية لا فضل فيها الا لله وحده.

كما ان ايا منهما لاتملك قدرات نهاد فتوح، التي اذهلت الجمهور بادائها لاغاني امها سعاد محمد، وأغاني ام كلثوم. وكان يقدر لها لو استمرت وتطورت ان تبزهما.

ومثل ذلك المقارنة بين الشاب اللطيف ملحم زين ووليد توفيق.

اذن!

اهو اسم البرنامج وقد تحول الى مصطلح انكليزي متأمرك، يحمل ما في توق هذه المرحلة المتخلفة الى كل ما هو »سوبر«، وكان منطق الاشياء الذي يقول بان الاقتراب من الكمال يتحدد بقدر الدقة في اتقان التفاصيل والمنمنمات، لان اكبر السوبرات كما اصغرها مبني من الذرات الاولى، هذا المنطق قد اصبح منطقا مستبعدا لصالح حاملات الطائرات وناقلات النفط… ونمط حياة يجعل من كأس الشاي الساخن دلو شاي مثلج.

بعيدا عن فلسفة الامور نعود الى: لماذا ؟

ولا نحتاج الى الكثير لنجد الكثير من الاجابات: فثمة حاجات ماسة تمتد من حاجات النظام الدولي الجديد، وتصل الى حاجات المواطن العربي الفرد البسيط، تنفخ في رغوة الصابون المتشكلة حول هذا البرنامج وتضاعف حجمها مرات ومرات….

الاميركيون، ومن معهم بحاجة الى اية ضوضاء تساعد في تمرير احتلالهم للعراق بالدرجة الاولى، واحتلالهم للمنطقة بالدرجة الثانية. تمريرا لا يقتصر على الاحتلال كعنوان وانما يتجاوز الى كل تفاصيل ما يجري من تدمير ونهب وتآمر في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، تنفيذا للمخطط الموضوع منذ امد بايد اميركية – يهودية صهيونية. اية ضوضاء.

والانظمة العربية بحاجة ماسة ايضا الى اية ضوضاء تشغل الناس عن كل شيء: عن التآمر الحقود الذليل بخصوص العراق وفلسطين وسائر قضايا المنطقة، عن العجز المريع في مواجهة ما تلا من المخطط، عن الكذب الفاضح فيما يخص كل شيء خاصة فلسطين، وعن الفساد المستشري في موازاة ترد اقتصادي متواصل.

اما المواطن العادي… هذا الذي يهرول في الشارع و»ينطنط« في البيت او مكان العمل لرويدا او ديانا وكأن فوز احداهما سيحدد خط سير الامة في المرحلة الراهنة، فانه وببساطة كمن يهرب الى كأس او الى جرعة مخدر او الى سحجة او ضياع ينسيه ما هو فيه. دون ان يكون هذا النسيان الهارب فرحة حقيقية تعوض شيئا.

هذا من جهة، ومن جهة اخرى، سيكولوجية، فانه وهو المكبوت، المحروم من ابداء رأيه في اي شيء، يحاول ان يرضي نفسه بابداء الرأي في صوت صبية صغيرة، ويجعل منها معركته البديلة لكل المعارك التي يعجز عن خوضها. انتصاره البديل عن كل هزائمه الرهيبة.

واخيرا…. وسيكولوجيا ايضا، يأتي العزف على الوتر الاقليمي الحقير ليجعل من اللعبة اشبه بحال عائلة مضروبة بالخزي والضيق والفقر، فيروح كل فرد فيها »يفش خلقه« بالآخر، ويمارس ضده ما لايتمكن من ممارسته ضد المستغل والقامع والمذل من الخارج. يفرغ في اخيه ما شكله فيه السيد من كبت وعقد نقص وعدوانية ناتجة.

و….انتصرنا!

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون