في مديح الطقوس!

صحيفة الدستور، 11-08-2003

اذكر، وللمصادفة، انني كنت اعيش محنة موت امي عندما قرأت مقالا رائعا لكاتب فرنسي، بعنوان »في مديح الجنازة«، ومضمونه ندب حارق لتلك الايام التي كان الناس يقيمون فيها طقوس العزاء التي تخفف المآسي، ويتكاتفون في مواجهتها، وتحليل عميق لتأثيرات المادية الاستهلاكية، والفردية الانعزالية ودورها في القضاء على الطقوس، بل والدلالة التي تجعل من غيابها تجليا وتجسيدا لما آل اليه الانسان الغربي من وحدة قاتلة حتى في مواجهة الموت، نتيجة تلك التأثيرات ، وما حطمته من حس انساني روحي. واذكر كم وجدتني اقيم المقارنة بين هذه العزلة الباردة المرة، وبين اجواء الحنان الدافىء والتكاتف التي تطوق كتفينا المرهقتين الضعيفتين امام القدر. حتى ولو بلغت تلك الاجواء وما تنتظم خلاله من طقوس، احيانا حد المبالغة التي نظنها مزعجة، لكننا سنبكيها ان فقدناها كما فعل صاحبنا الفرنسي.

مصادفة اخرى نقيض تماما – والحمد لله – ان ادعى الى مولد، وانا استعد لزفاف ابنتي، اقيم احتفالا بقدوم طفل جديد. لاحس في الحالين، دور الطقس المذهل في رسم ملامح الفرح واكسابه معنى اضافيا.

لكنني توقفت عند مفارقة مضحكة اولا، مبكية ثانيا، هي ان الصبايا يتهيأن بحماس لما يسمينه (Shower Party) وكانه اختراع جديد منت به على اعراسهن الحضارة الغربية الحديثة، في حين انه ليس في واقع الامر الا »حمام العروس« الذي طالما احيته جداتنا بطقوس اجمل وفرح اعمق.

طقوس تتجاوز الحمام الى سائر مجريات العرس، بما تحمله من دلالات رمزية حلوة.

دلالات عميقة، نابعة من صميم حياة الناس وموروثهم تفسر ظاهرة مهمة، هي ان الطقوس الدالة الموروثة لا تبدو مفتعلة رغم انها ليست عفوية بالمعنى المباشر، في حين ان الشكليات السينوغرافية التي تخرج بها الاعراس الحديثة تصل حدا من الافتعال المقزز، الذي يلغي كل احساس حقيقي، بما فيه الفرح. اذ لا حبل سرة، ولو وهميا بينها وبين الحياة والمعيش والمألوف والمعنى.

كانت العروس تلصق فوق باب البيت قرص الخميرة، وكانت الخميرة وجودا اساسيا ومألوفا في الدار على امتداد العام، ومنذ الاف السنين، وجودا يحمل عرق الحقل ورائحة الخبز كما يحمل دلالة لا يخطئها احد، ويؤمن بها الجميع.

فما هي العلاقة الموازية، مثلا، بين الدخان الوهمي الذي يدفع حول العروسين اليوم ومكنون الذاكرة والموروث والحياة اليومية او المعتقدات او شغاف القلب؟

مثال اعاد الي حديثا للشاعر العراقي الكبير، الصديق، حميد سعيد حول دور الطقس في شحن الابداع، وتصليب الخط الفكري والثقافي ، واخصاب ضفاف نهر الامة ومياهه المتدفقة بلا حدود وبلا توقف.

كعراقي ينتمي الى ذلك الارث الاستثنائي، وكشيعي تربى في اجواء يشكل فيها الطقس جزءا كبيرا من الدين والعبادة وتتماهى غالبية مظاهره مع الطقس العشتاري وكشاعر يسحب نسغ قصيدته من شرايين الموروث المتحول طقوسا ويبني حداثته على اصالته، كتب حميد مديحه للطقس، كما كتب صاحبنا الفرنسي مديحه للجنازة، لكن مع فارق اساسي ان طقوسنا لم تدخل بعد دائرة الموتى والمفقودين، وان لنا ان نبقيها حية.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون