عيد هنا، وعيد هناك.. وبين الهنا والهناك ما بين الكرامة والذل، ما بين الحرية والعبودية.
كنا صغارا عندما حفظنا في المدرسة قصيدة البلبل للشاعر احمد الصافي النجفي:
»تلاقى بروض بلبلان فواحد
له حوله ما يشتهي من فواكه
وثان طليق باحث عن غذائه
له قفص قد نيط بالفنن الاعلى
وحب واكل يجمع الري والاكلا
اذا لم يجده يغتذي الشمس والظلا«
ويمضي الشاعر في وصف المخاطر التي يتعرض لها الثاني، حتى رصاص وسهام الصياد، الى ان يصل الى توجيه نزيل القفص دعوة لرفيقه يسهب فيها في وصف مكاسبه، ليرد الاخر بجملة واحدة: »صدقت ولكن طعم حريتي احلى«.
كان ذلك ابلغ وابسط واحلى درس في الحرية والكرامة تعلمناه نحن الصغار وكان الشاعر عراقيا.
الى جانب هذه القصيدة اشتعل خيالنا ايضا بسيرة عنترة، العبد الاسود الذي قاتل وابلى في سبيل حريته، وكان ذلك ايضا درسا بليغا وبسيطا في قيمة الحرية.
لكن..
هل كان الامس خمرا وغده، حاضرنا، امرا؟
فها هو العيد هناك، عند السود يشتعل لشاب اسود في الخامسة والثمانين اسمه نيلسون مانديللا، وصفته انه محرر قومه من العبودية والدونية ومحرر بلاده من مرض التمييز العنصري.
وها هو العيد يتقزم عندنا، كما كل شيء، ليصبح على لسان حكومة فيشي العراقية، عيد احتلال بلادهم ودخول قدمي سومر وبابل القيد الاميركي.
رحم الله الكواكبي، ونصه الثوري الرائع عن المفاهيم المقلوبة، واي قلب ذاك الذي يجعل من الاحتلال تحريرا ومن العمالة الذليلة حكومة وطنية.
الحكومة حرفيا من فعل حكم، فعلام يحكم هؤلاء المعينون بقرار الحاكم الحقيقي، الاجنبي المحتل؟
هل يحتكمون حتى على اعمال النهب والسرقة والاعتداء.. هل يحتكمون حتى على منع جندي اميركي من تفتيش امرأة عراقية؟
بلى، يسرق المحتل النفط وثروات البلاد، ويسرق من دخل معه من الموساد تاريخها ومتاحفها ومكتباتها وجامعاتها وتراثها، ويترك لهم ان يسرقوا بعض البيوت وبعض رزم النقود التافهة.. اي صغر حتى في العمالة!
فهل هؤلاء هم العراقيون؟ اهؤلاء هم ورثة الشاعر النجفي، والحسين بن علي!
وهل كنا احرارا تحت ديكتاتورية صدام حسين؟ يقولون.
لا.. ولكن لماذا لم تزحفوا لاسقاطه كما زحفت جماهير باريس على الباستيل.. لماذا لم تقودوا مقاومة كما فعل ديغول ضد هتلر ومن لندن حيث تدلت عضلاتكم وترهلت على كراسي المقاهي والفلل والفنادق الفخمة، او حيث اصابتكم هشاشة العظام في جحور اللجوء المذل؟
لماذا لم يكن بينكم نلسون مانديللا يمنحنا يوما فرصة الاحتفال بعيد خمسة وثمانين قضى ثلثها في السجن وثلثيها في النضال؟
كان يسرق من بين قضبان السجن اشعة الحرية ويعيد، بصموده، تصديرها شموسا لشعبه فما الذي كنتم تسرقونه من عواصم العالم الا مالا حقيرا يحولكم الى عصاه يضرب بها ظهر بلادكم؟
لكن.. أهو قدر العراق: اما ديكتاتورية النظام الفاشي واما فوضى العملاء؟
اهو قدره الآخر اما الجدار الاستنادي الاساسي لهذه الامة كلها، واما حفرة الانهدام لوجودنا وآمالنا ومصيرنا؟
المعادلة الثانية اجل، اما الاولى فلا.. ووراء هذا الغث من الموت الوضيع، ثمة ارث آخر لا يمكن ان يموت، ثمة وجود هو العراقيون الحقيقيون الذين بدأت ارهاصات ردهم تقول للعالم: نحن هنا.
هؤلاء وحدهم هم القادرون على قلب طاولة العيد فوق رؤوس المفتشين بخمورها الفاسدة، واحياء عيد كذاك الذي عاشه جنوب لبنان. او جنوب افريقيا.
عيد يستحق وصفا اطلق على نلسون مانديللا: »لا يمكن السيطرة عليه«.