شجيرة الغاردينيا، ارسلت لي ضيفة بيضاء وديعة تعطر قهوتي هذا الصباح! لكأنها، وردة الغاردينيا، فاتحة ضيوف هلوا من الفجاءة على هذا القلب، الذي كاد التعب يسقطه، هو الذي لم يسقط يوما، في حفرة الكفر… ضيوف، يمسكون بثوبي، يتشبثون بكتفي، ويصلّبون ساقي في القطار الذي لا يجوز السماح باخراجه عن سكته، مهما كانت المحطة بعيدة، والطريق صّباري.
أول زوار وردة الغاردينيا المتفتحة على صينيتي النحاسية – عطرها ام عطر القهوة، ام نداء روحي، ما جاء بهم هذا الصباح؟؟! – اولهم: اسامة انور عكاشة. قال الكثير هذا المبدع الكبير، لكنه قال في كل ذلك معنى واحدا هو الاهم ان الدنيا لم تنته، وان كل ما حصل ويحصل من زلزال، لا يمكن ولا يجوز ان يصرف المبدعين عن المقاومة بمشروعهم..
واتفق مع الضيف الكبير الآخر نجيب محفوظ ومع مقدم البرنامج مروان صواف على ان الزلزال الكبير هو قبل كل شيء نتيجة طبيعية لاختلال القيم، لانهيار منظومتها، في هذا الحقل العربي الذي ضربته عواصف الانفتاح العشوائي، وخماسين الانغلاق الانكفائي.. لكنه اعتبر بهدوء راسخ ثابت، ان دور النخبة الواعية، والمبدعين خاصة، يصبح والحال هذه، اكثر الحاحا.
تمنى مع عاصي الرحباني ان يكون للانسان عمران: واحد يتعلم فيه والاخر يبدع فيه.
كرر أزمة هؤلاء الذين تسكنهم كلمة اشبه بتلك التي كانت البدء.. ازمة السباق المر بين محدودية عمر يخنق قصره الوقت، ولا محدودية عطاء كلما نما تطلع الى وقت آخر…
وكيف يتسع عمر فرد لكل ما يجب بناؤه من سدود في وجه الطوفان الهادر، لكل ما يجب جمعه من تحت انقاض مكان وزمان مزلزلين، واعادة نصبه فوق اساساته الراسخة؟
ومن كل اعمال عكاشة الباهرة، اختار المخرج لقطة قادرة بحد ذاتها على احداث زلزال في الوجدان، خاصة امام لحظة ضعف ويأس.
هي تلك اللقطة التي يبرز فيها وجه أمرأة، جشع شره، متسلط ومستبد، (تجسده سميحة ايوب) معلنا بمكبر الصوت ان البلدوزر ستتقدم لجرف الفيللا القديمة، وستجرف عنوة جمهور الشباب الذين تجمعوا وراء استاذهم، امامها، لمنع ذلك. وبين اصرار المرأة المتجسد صراخا هستيريا، واصرار الجمع المتجسد صمتا كاملا رهيبا، تصرخ فيه العيون والايدي، يتأجج التحدي، فتعطي هي الامر للاسطا بالتقدم، ويرد الاستاذ الصامت بالنزول الهادىء حتى التربع ارضا، ليتبعه جميع رفاقه وطلبته، ثم يشبكون ايديهم ويرفعونها في الفضاء، في وجه الجرافة الزاحفة، ويلتحم التحديان كقبضات ملاكمين جبارين يحاول كل منهما لي مقاومة الآخر، ودفعه ارضا… الى ان تبلغ الجرافة الناس، فتتوقف، لتتوقف معها الصورة كلها، ويخرج صوت فردوس عبدالحميد يتلو بيانا يدعو جميع اهالي الاسكندرية الى الالتحاق بالدكتور ورفاقه وطلابه في الاعتصام والمقاومة كي لا تتمكن جرافة السيدة من هدم الفيللا.
واذا كان في هذا المشهد احالة ايحائية، في حينه، الى هدم فيللا ام كلتوم، الذي كانت وراءه جيهان السادات، فان الايحاء الكبير الذي يتجاوز، كما كل الابداعات الكبرى، اللحظة والآن، والحدث المحدد، هو الاحالة الى كل حالة الجرف التي تتعرض لها منظومة القيم في بلادنا، ويتعرض لها بالتالي وجودنا وكرامتنا، واحالة الى حالة المقاومة التي تجسدها النخبة الواعية من مثقفين وشباب وابناء الشعب، والاهم هو ذلك الانذار الذي يجسده التوقف السينمائي للقطة اقتراب الجرافة من الجمهور، بحيث ان هذا النوع من وقف حركة الصورة، هو تقنيا وقف مؤقت، محدود المهلة، اما ان يعاد بعده تشغيل الجهاز، ويستأنف استمرار اللقطة واستكمالها.. (اي جرف الناس)، واما ان تظلم الشاشة كلها.
ولذا جاء صوت البيان الداعي الى الالتحاق بهؤلاء ودعمهم، سريعا، كي لا يؤول الامر الى احدى هاتين النهايتين، دعوة الى كل متلق منا، كي لا يتخلى عن دوره، والا يقبع في سلبية المتفرج.. ولكل مجاله.
ولكأن المخرج عمد بذكاء الى استكمال الدعوة، فاذا بالضيف التالي تلك الشابة المبدعة، الجميلة الانيقة، ولكن بجمال واناقة لا يشبهان ابدا هذه الوجوه المصنوعة والاجساد المستباحة، التي تسمى مطربة، وليس في صوتها ما يطرب، وما هي الا تجل من تجليات جرافة سميحة ايوب الزاحفة حتى على الحس الجمالي الحقيقي الاصيل والراقي.
جوليا بطرس، بروعتها كامرأة جميلة انيقة بسيطة ومحتشمة، وبروعتها كفنانة مثقفة واعية وملزمة، وبروعة صوتها القادر على التجوال بين الحنان والقوة، باحساس صادق وحقيقي… تدخل الى صباحي، بعد اسامة انور عكاشة.. بـ: »اوعا تسافر«. »مين القلك انو الجنة منّاهون؟«
اوعا تسافر، لانه ممنوع عليك الهرب من مواجهة الجرافة، ممنوع عليك الهرب من العمل على تحويل هذا »الهون« من ارض مزلزلة الى جنة.
دون ان يعني ذلك، ان المطلوب منك هو الانعزال عن العالم، بل ان الانفتاح عليه هو مطلب، يلبيه آخر الضيوف: احد الاخوين بشناق، يؤدي مع مطرب آخر اغنية ثنائية اللغة: العربية والفرنسية.
لكأن الجسر القومي، الممتد من مصر الى لبنان الى تونس، يلتحم بجسر آخر ممدود بيننا وبين الحضارة الاوروبية.. لتشكيل جبهة مواجهة.
اي عمل متكامل، بسيط واع وعميق حملته الى قهوتي الصباحية، مروان صواف، فابكيتني، وصلّبتني، وشددتني الى الاصطفاف اكثر مع هؤلاء الواقفين في وجه الجرافة. حاملة اليك واليهم زهرة الغاردينيا التي اهدتني اياها حديقتي هذا الصباح!