صبيحة ونوح

صحيفة الدستور، 24-05-2003

بين صبيحة الشيخ داود ونوح فيلدمان، ما بين صرخة الوليد وشهقة النزع.. بينهما ثلاثة ارباع قرن من قرون القهر المتربعة على صدورنا، نحن ابناء هذه الامة السنديانة، المتمنعة على الموت والممتنعة عليها الحياة الحرة.

بينهما ما بيني انا المرأة العربية التي لم ترث الجواري، بل وعت كونها حفيدة لعشتار، نموذج حضارات الماء الانثوية وبين رجل يهودي متحجر ورث بعناد يشوع ويهوه ارباب حضارات النار الذكورية.

نسيت ان قارئي قد لا يعرف هذين الاسمين اللذين لي مع كل منهما قصة غريبة.

نهاية المرحلة الثانوية والاستاذ يسألالطلاب فردا فردا ماذا ستفعل بعد التخرج؟ الطلاب الذكور يعددون خططهم الجامعية تخصصاتهم المقترحة. ويأتي دور الفتيات فاذا النوايا تحوم حول الاداب والسكرتاريا والتوقف.. الا انا اجيب بعفوية تامة، سادرس الحقوق، مذ كنت في السابعة وانا احلم ان اكون محامية.

وكالصفعة يأتيني ضحك القاعة بما فيها الاستاذ الذي يهدئ ثورتي بالقول ان هذا التخصص غير مألوف للبنات، واحمل غيظي المستقل الى المكتبة العامة والى ارشيف مجلة حواء الذي كانت امي تحتفظ به، ابحث عن موقع المرأة العربية في حقل القانون.. واجد دلالتين باهرتين: الاولى ان آلهة العدل عند الفراعنة هي ممات (امرأة) والثانية ان اول حقوقية وقاضية في العالم العربي هي عراقية وتدعى صبيحة الشيخ داود.

منذها، لم انس هذا الاسم الذي كلل بحثا قدمته لاستاذي تحديا، وككل مصادر الغذاء الذي شحن روحي كامرأة عربية تسعى بجدية الى حريتها. وعندما عرفت الحقوقيات العراقيات بعد ذلك بعقدين في مؤتمر للحقوقيين العرب، رويت لهم القصة بامتنان.

لكأن لهذا العراق، قدر عبارة كرومر (كل شيء بدأ في سومر).

وكأن لهذه الصبيحة قدر الانتماء المزدوج الى عشتار المرأة وحمورابي الشريعة.

حمورابي الذي ابكاني فخرا واختلاطا رهيبا من المشاعر، عندما زرت متحف اللوفر للمرة الاولى، ووقفت قرب استاذ يجمع طلابه امام مسلة حمورابي ويشرح لهم تاريخها ونصها.

وحمورابي الذي يبكيني اليوم وصبيحة الشيخ داود. قهرا، وانا اقرأ عن هذا النوح فيلدمان، الذي جاء يضع دستورا للعراق.

نوح فيلدمان، اليهودي المتطرف، ابن بوسطن، ابن المدارس التلمودية الارثوذكسية، ابن الاثنين وثلاثين عاما، يصل العراق وفي حقيبته سيرة ذاتية كل ما فيها شهادة من اكسفورد، وكتاب عن الاسلام والليبرالية صدر قبل غزو العراق بشهرين: سبحان الله!!

ميزته الفكرية انه يقول بتوافق الاسلام مع الليبرالية، ويريد ان يضع دستورا يمنع التطرف والاصولية.

سبحان الله، مرة اخرى، ففيلدمان هذا، لن يحل محل خبراء القانون الدستوري العراقيين الذين يقدر عددهم بثلاثة الاف.. لا ولا محل زملائهم العرب الذين يبلغون الاف اخرى.. بل سيحل محل الائمة الاربعة من ابي حنيفة الى ابن حنبل.

ولن يكون دستوره بالمقابل دستورا علمانيا، لانه رجل متدين، ومتدين متطرف. اذن.. اصولي يهودي يطارد الاصولية الاسلامية على جثة حضارة حمورابي. ويهدد بلاد نبوخذ نصر.. دستوريا.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون