مقصلة الكبرياء!…

صحيفة الدستور، 09-04-2003

الحمال الصغير، الشاب ذو الخامسة عشرة، صدف وان كان عراقيا.

كالكل هربت وصديقتي العراقية ايضا، الى عمل اي شيء، فقررنا الذهاب الى سوق الخضار

قالت له: من اين انت؟

اجاب: من البصرة

قالت له مازحة: لماذا لاتعود، انهم الان يسرقون كل شيء.

رد بحسرة واستنكار بريء: حرام، والله حرام، هذه مؤسسات الدولة، انها ملك الكل، ملكنا.

لكن كم اتمنى ان اعود لاعود الى المدرسة.

هذا هو الوجه العراقي الذي يمسح وجوه الرعاع والسفلة الذين تضج بهم شاشات التلفزيونات ووسائل الاعلام العربية والاجنبية هذه الايام.

حرام، والف حرام! فلنوقف هذه المجزرة! انها مجزرة اخطر من مجزرة الارواح والاجساد والممتلكات والمؤسسات! انها مجزرة الكرامة والاعتزاز ! انها مجزرة رقبة الكبرياء العراقي، ومن ورائه العربي كله، تحت مقصلة الحقد اليهودي الاميركي. اتها تشويه وجه الشهيد وتمثيل بجثته، اوقفوا التمثيل بجثة العراقيين !

اليس في العراق قتلة ومجرمون وسارقون؟ اليس فيه رعاع ومكبوتون وحاقدون؟ – ولا اقول محتاجون، لان الحاجة وحدها لا تدفع الى الشر – اليس فيه فساد اغبياء وجهلة؟

– اجل فيه ما في كل بقاع الارض ومجتمعاتها من كل ذاك، لكن فيه على امتداد الخمسة وعشرين مليونا من البشر والسبعة الاف عام من التاريخ، والاف الكيلومترات من الجغرافيا، ما ليس الا في اي دولة او مجتمع من مخزون الثراء الانساني والحضاري والثقافي والاقتصادي، حتى في المعيوش اليومي، مما يكفي لشحن كل العرب ولتوزيع منة على لقطاء بلاد المئتي عام، واهل سندويش الهامبورغر.

حرام، حرام!

هذه بلاد سومر التي اعترف لها كرومر بان التاريخ بدا فيها، وكل شيء بدا فيها! وذلك ما عبر الامير الحسن قبل يومين في مقال بعنوان »كلنا مدينون لما بين النهرين«، اية »نا«؟ نا العرب، ام نا الانسانية كلها؟ – بل كلاهما معا.

دين لم يتوقف عن التدفق الى ذمتنا في عهد صدام حسين، الذي كان كبيرا في اخطائه كما كان كبيرا في كل تطلعاته ومواقفه، (اقول ذلك وانا لم اذكر اسمه مرة واحدة في مقالاتي الا اليوم ! كي لايشبه وجهي تلك الوجوه المباخر في ايام العز، ايام كان العراق »يدافع عن الجناح الشرقي« و»يقود الامة« و… يوزع المنن والنفط والدعوات والمنافع…. والمرتدة في ايام الردة لان المتسول لا يبحث الا عمن يمن، والذليل لا يبحث الا عمن يتسول منه حماية وقوة…)

حرام! حرام!

هذه بلاد اشور بانيبال، وسرجون، واسرحدون، ونبوخذ نصر، والرشيد والمأمون والمعتصم وصلاح الدين.

ولكن الا يعني كل اسم من هؤلاء ثارا مرا حاقدا لدى هؤلاء الغزاة الصهاينة؟

اوليس هذا التشويه انتقاما حارقا من السبي وعمورية وحطين؟ وفيما هو اعمق: انتقام من مكتبة نينوى والواح اشور ومسلة حمورابي وقصيدة ابي تمام… من تمثال جواد سليم وارث السياب… بل ومن شهداء الجيش العراقي على تخوم وارض قلسطين.

هذا هو العمق الحقيقي للحرب، امر ابعد بكثير من نظام صدام حسين: كسر الكبرياء الوطنية، وتدمير وطنية الحضارة والثقافة، اذلال الروح وسحق كل شيء، لاجل بداية جديدة، لامكان فيها الا لما يرسمه ريتشارد بيرل ولفيفه، من اسرائيل الى الولايات المتحدة.

اذلال لن تنعكس اثاره على العراقيين وحدهم، على مستقبلهم وحدهم، بل وعلى هذه الامة بكاملها، للقضاء على اخر بؤر الكرامة فيها وتحويلها الى جمع من الدلالين والسماسرة، من الباعة والمبيوعين، اما البضاعة فكل شيء، ولا حرمة لشيء في غياب الكرامة…

قد يقال انها طبيعة الحروب، وان الرعاع هم الذين ينزلون الى الشوارع في مثل هذه الظروف، لكن، لا فكل من يراقب يلحظ ان ثمة امرا ممنهجا مرتبا من قبل قوات الاحتلال، ليس فقط للتركيز على العملاء والسارقين والسفلة، بل ولحجب اي وجه سواهم، واذا كان من الطبيعي ان يؤدي الاعلام الاجنبي التابع للمحتلين، والمهود بغالبيته هذا الدور استكمالا للحرب النفسية التي تقع في اساس الحرب، بل وتنفيذا لاهم اهداف الحرب نفسها، فاننا لانفهم لماذا يقوم الاعلام العربي بنفس الدور؟

لا نريد ان يبرز لنا من يبكي على نظام صدام حسين ولكن على الاقل من يبكي على العراق.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون