رحيل الكبار

صحيفة الدستور، 08-02-2003

وفي الرجال الكبار ذلك المزيج الدافىء من سلطة وحنو، من سعة ودقة، من هيبة وود، من تعالٍ وتواضع، من قرب ومسافة، من قسوة وتهذيب، من رقي وبساطة، من أستذة وتلمذة، من حسم وتروِ، من جنوح وتعقل، من نزق وحكمة، من تسامح وتشدد في الحساب.

واحداً منهم، وما أقلهم، كان أبو شوقي، أبا، يعرف كيف تكون الأبوة كفاً تتسع لتحتوي، وتنقبض لتربي، تمتد لتربت على رأس، أو لتضرب على ظاهر يد، تمسك بذراع لتسند كياناً أو لتهز كياناً، تجدها وراء ظهرك لدعم إن احتجته وتجدها أمام وجهك اصبع تنبيه، واشارة توجه.

صديقاً، يصغي الى ان تتشكل الفسحة الكافية له ليلم ولك لتنشر همك، ويتكلم لا ليرضيك بموافقة منافقة مسايرة، أو بطبطة مخدرة مسكنة، وانما لينقر بحماس كبير حب الحنطة من الزؤان، ليقول لك ببساطة حاسمة انك على حق هنا، وعلى خطأ هناك، وان عليك ان تتمسك بحقك بالقدر ذاته الذي تتصدى فيه لتصحيح خطأك، وان تتقبل الثمن حتى ولو كان صعباً.

وأستاذاً، ميزته ان قدرته على التعليم تضاهيها قدرته على التعلم، ذاك التعلم الذي كان للأستاذ ان يرتوي من كل شيء في الدنيا إلا منه…

لم التقه مرة إلا وحدثني عن كتاب جديد، أو عن كشف ثقافي جديد، أو عن فيلم هام شغل به أمسية لم يرغب فيها بالخروج أو القراءة، عن دور النشر الأوروبية التي يحرص على اشتراكه السنوي فيها كي تزوده بقائمة اصداراتها، تأميناً للمواكبة الثقافية والسياسية والفكرية لكل الأنهار المعرفية المتفجرة في العالم المتقدم، هذه المواكبة التي يشكل الافتقار اليها جوهر الأزمة الحضارية في العالم العربي، الذي لا يأكل إلا الطعام »البايت« لدى الآخرين، ولذلك يظل يلهث وراءهم. ومرات حدثني عن هذا النقص وشجعني على أن اجعل معرفتي باللغات الأجنبية أداة لتحقيق ذلك.

اللغات الأجنبية، وأذكر جيداً كيف فاجأني، وانا أساعده في التدرب على التحدث باتقان باللغة الفرنسية، – فاجأني بقدرة غريبة على التعلم بسرعة، قدرة تخالف قوانين التعليم، التي تقول انه من الصعب جداً على الانسان اتقان لغة جديدة بعد سن الشباب، كان يومها في آخر الستينات، لكن استجابته حتى في التمكن من دقة اللفظ واللكنة، كانت كتلك التي يحققها طالب في الاعدادية… بضع جلسات، واذا بي افاجأ به على شاشة التلفزيون، يلقي، كوزير للاعلام، كلمة بفرنسية متقنة.

لم يكن ذلك سر عقله فقط، وانما سر شبابه… هو الذي حمل الشباب الى الكهولة والشيخوخة، ولم يحملهما اليه، مما كان يزرع حوله دائماً الاستغراب والسؤال، لأن الذين لا يفهمون ان الشيخوخة لا تجرؤ على الاقتراب من عقل مواظب على الغذاء، وقلب مواظب على العطاء، لا يفهمون ان الشباب ليس عمراً ولا عبثاً بل تجدداً ونماءاً وحيوية…

مرة كتبت عن الأميرة فخر النساء زيد: »هذه الصبية ذات الثمانين«، وكنت يومها في عداد رواد اكاديميتها لتعليم الفن التشكيلي ونقده، وارى فيها امرأة مستقلة النشاط، رائعة الأناقة، متقدة الروح، مشحونة بالسعادة، هي التي لم تتشكل حياتها الا من سلسلة رهيبة من المآسي، ويومها علقت على عبارتي قائلة: »كلما نظرت الى انتاجي شعرت أنني اكبر من الزمن وأقوى من الموت، وكلما انتجت لوحة جديدة، شعرت انني شطبت سنوات من عمري، وكلما رأيت واحدة من تلميذاتي تنجح في ابداع عمل جديد، شعرت انني أولد من جديد… وان فسحة من الفرح الابيض تمتد في داخلي«.

ذكرت ذلك مرة له فابتسم ببعض الحرج قائلاً: التعلم متعة يا أخت حياة… والانتاج متعة، والنجاح متعة أكبر… أليس كذلك؟ في الحياة نوعان من المتع: واحد ينتقص منك وواحد يضيف اليك، والله سبحانه أعطانا العقل لنميز، وأمرنا…«.

آخر جلسة عمل لي معه: كنت اتهيأ للسفر الى فيينا للمشاركة مع سبعين خبيراً دولياً في طاولة مستديرة في الاكاديمية الديبلوماسية عن دور الميديا في حوار الحضارات. حملت اليه بعض الاسئلة، خاصة حول قضايا معينة متعلقة بالاسلام، وبالعلاقة بينه وبين الغرب. كان عائداً لتوه من خلوة في البتراء مع مجموعة من المفكرين العرب جمعتهم الجامعة العربية، لتدارس موضوع حوار الحضارات، وتدفق بالحديث المنطلق من رؤية تجمع الالتزام الى الاستنارة والتجذر الى الانفتاح، استأذنته في تسجيل بعض الملاحظات والمرجعيات فاقترح علي أن آتي بجهاز تسجيل كي نتمكن من المناقشة والتحاور بحرية، ووجدته يتدفق كبحر علم، ويطلق رؤى ومشاريع مستقبلية لا تأخذ الموت أبداً في حسابها… لا الموت الفردي، ولا الموت الجمعي والحضاري…

كان مؤمناً بشدة بكل قناعاته، لذلك كان يشتعل بذلك الحماس الذي يقارب النزق لمن لا يعرفه، أو لا يفهمه..

هكذا قارب لحظة القدر، دون شيخوخة، دون عجز، دون أي انذار او استهلال… اراد الحياة قصيدة خالدة… وأراد الموت خطبة بتراء.. وترك لنا الفجاءة…

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون