البرامج الهادئة …

صحيفة الدستور، 15-01-2003

مصادفة يقودك عنوان مهم الى برنامج تلفزيوني لم تعتد متابعته، وتكتشف ان ما يقدمه يشدك ويثير الاهتمام اكثر من الكثير من البرامج اللامعة التي اعتدت انتظارها.

حلقة هذا الاسبوع من برنامج »خير جليس في الزمان كتاب« الذي يقدمه خالد الحروب على قناة الجزيرة، كانت حول كتاب للدكتور مروان بشارة، الفلسطيني المقيم في باريس حيث يدرس في احدى جامعاتها، وبمشاركة الدكتور مصطفى البرغوثي.

الجاذبية تمثلت اولا في عنوان الكتاب: فلسطين اسرائيل: سلام ام تمييز عنصري؟ لكن العنوان قد يجذب لدقائق، لتواصل اولي، لا تلبث بعده ان تقلب الصفحة او المحطة الى موضوع اخر، وقد يشكل مدخلا لتفاصيل تشكل كل منها مدماكا جديدا في بنيان علاقتك الوثيقة بالكتاب والكاتب والموضوع، وهذا ما حصل في هذه الحلقة.

الفصول المتتالية تناولت قضايا بالغة الاهمية ومن زوايا متعددة:

الاوضاع القانونية لفلسطينيي 1948، الطابع العنصري لدولة اسرائيل، اتفاقية اوسلو ومآلها، العلاقة الاميركية – الاسرائيلية والعلاقة الاميركية – العربية.

قضايا مألوفة ومطروحة لكنها قادرة ابدا على ان تشد المشاهد في قبضتها حتى الكلمة الاخيرة، اذا ما تمت مناقشتها برؤية جديدة علمية، وموضوعية واقعية »وهنا يجدر التوقف عند تحديد الدكتور البرغوثي للواقعية، بانها دراسة الامور في واقعها، لا تبرير القبول والاستسلام والخنوع«.

الانطباع المهم هنا، اضافة الى هذا المتعلق بالموضوع، هو ان البرنامج لم يحتج الى الاثارة، ولا الى تمتع المذيع والمشاركين بـ »كاريزما« استثنائية، او باسماء تمتلك هالة استثنائية في ذاكرة المشاهد، او الى مواجهة تصادمية في الموقف والاراء، وغيرها من عناصر الجذب الاعلامي، كي يتمكن من شد المتلقي، ليس فقط لان موضوع الكتاب ومضمون الفصول والمناقشات قد تكفلا بذلك، بل لان الاسلوب الهادىء المتأني قد ساعد على التركيز والاستغراق،كما ان تماهي الاراء بين المشاركين: صاحب الكتاب والمعلق، بشارة والبرغوثي قد جعل كلا منهما يكمل فكرة الاخر ويعمقها ويوضح طرحه ويثبته.

من هنا كان ان هذا النمط من البرامج مطلوب، ليس فقط لان له شريحته التي تبحث عن هدوء العلم او تحب ان تمارس تلفزيونيا نشاط القراءة المتمعنة، بل لهدف اخر اهم هو ان المطلوب تثقيف الجمهور، وتعويده على التفكير الرصين العلمي، وتمكينه من ان يخرج في نهاية اي برنامج، طال ام قصر، وايا يكن موضوعه، بنتيجة واضحة، نتيجة لا تعني ان نعود الى السقوط في هوة الغباء الاعلامي الذي يضع الرأي في حلق المواطن ويحشره دون اي احترام لعقله وحريته، بل تعني منحه الفرصة الكافية للاستيعاب والتفكير والتحليل والاستنتاج.

واذا كانت طريق المعرفة الوحيدة هي اثارة الاسئلة فان هذه الطريق تصل الى حد مسدود اذا لم تترك المجال للاجابة عنها، اجابة تتوالد اسئلة فاسئلة فاجابات الى ما لا نهاية….

واذا كان العقل العربي يعاني من حالة سبات غيبوبي مزمنة تحتاج الى اللكز والوخز والتفجير، فانه يعاني ايضا من حالة لا تقل خطورة هي حالة الفوضى والتخبط والبلبلة التي لا تحتاج الى المزيد، ولعل ايجاد المعادلة الاعلامية بين هذين المتطلبين هو اصعب ما يمكن ان يجد له المخططون والمنفذون حلا.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون