معايير الكفاية…

صحيفة الدستور، 08-01-2003

هل راتبك يكفيك؟

بهذا السؤال يتحول الراتب الشهري الذي يتقاضاه عالم عراقي الى سلاح دمار شامل. بل ان الادق ان كلمة »الاكتفاء« هي سلاح الدمار الشامل الحقيقي.

فإذا كان مضمون الاكتفاء هو ذلك المتمثل بالقيم المادية الاستهلاكية التي تعمل الثقافة الامريكية العولمية على تركيزها في العالم منذ عقود، فإن اي مبلغ لا يكفي، عملا بقاعدة آدم سميث الشهيرة من ان تلبية كل حاجة مادية يولد حاجة جديدة. مما لا يجعل للحاجات نهاية، فكيف الامر بالجشع؟.

واذا كان المقصود بالاكتفاء، الحياة الكريمة او كما يقول تعبيرنا الشعبي »المستورة« فإن العراقيين الذين اعتادوا الرفاه، والبحبوبة اكثر من اي شعب آخر، قد عرفوا مع الحصار الممتد حدود فاقة وتقشف كان من شأنها ان تحولهم كلهم الى جواسيس وعملاء، لكن ذلك لم يحصل، ولم يجد مفتشو الامم المتحدة الذين حاولوا اللعب على وتر الحاجة هذا، لاستدراج عالم عراقي الى الخيانة، الا نقل العالم المعني هذا السؤال للمسؤولين السياسيين، ليمنح بذلك خطاب طارق عزيز في مواجهة الامريكيين وفي كشف الدور التجسسي للمفتشين، قوة ومصداقية وحجة.

قد لا يكون العالم المذكور مكتفيا.. وقد لا يكون مولعا بحب صدام حسين او حتى النظام العراقي كله. لكن الرهان المطروح امامه ليس هذا ولا ذاك، بل هو رهان العراق.. العراق بأرضه وترواثه وتاريخه ومستقبل ابنائه، بحريته واستقلاله وكرامته. بل وبأدمغة علمائه المطلوب منهم التحول الى عملاء يبيعون المفتشين اعترافا -ولو كاذبا- يقدمه هؤلاء للعالم حجة لتبرير تنفيذ الولايات المتحدة خطتها بتدمير العراق.

وامام رهان كهذا تغيرت معايير الكفاية، اذ وازنتها كلها وقفة شرف وعز.

قد لا يكون العراقيون نسخا مستنسخة من قديسين، وقد لا يكون من الممكن ان يصب شعب كامل في قالب واحد من الاستقصاء والترفع والصلابة، خاصة وان الظروف الصعبة والقاسية التي عاشوها منذ اكثر من ربع قرن تجعل من القديس شيطانا، وتكسر الفولاذ قسرا. لكن الواقع على الارض يبرهن لنا حتى الآن ان القبور على حسين كامل جديد امر شبه مستحيل، ربما لان المصير الذي لاقاه المذكور قد شكل درسا وردعا. وليس المقصود بالمصير، قطع رأس المتمرد العائد ومن معه، بل الاهم من ذلك، اضطراره للعودة الى مصير شبه محتوم لان الذين استدرجوه واستعملوه انفسهم قد تخلوا عنه، ولم يقبل الامريكيون الذين استعملوا اعترافاته لخنق العراق سنين جديدة ان يمنحوه ملجأ ولو بثمن الاموال التي هربها. ومثلهم الاوروبيون.

وانتهت المغامرة الى خاسرين ورابح واحد: الخاسر الاول هو العراق والرابح هو واشنطن ومن ورائها اسرائيل وبينهما رجل خسر كرامته وماله وحياته ومات خائنا تلحقه اللعنة حتى ممن رفضوا اسلوب قتله.

فهل سيجد المفتشون المكلفون بايجاد دليل يبرر تدمير العراق، استعماره وتقسيمه واذلال ابنائه، رجلا يقبل ان يعيد اللعبة نفسها؟

وهل سيبرر عراقي لنفسه – حتى ولو كان يرفض جملة وتفصيلا النظام القائم- بيع العراق بحفنة من فضة؟

لقد باع يهوذا الاسخريوطي المسيح، لكنه في اليوم التالي شنق نفسه في تينة.. فأية تينة هي تلك التي يمكن لها ان تحمل ذنب المسيح العراقي؟

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون