نموذج… نموذج لعمل ثقافي ابداعي يشكل بذاته جبهة مقاومة يأتلف فيها المضمون بالشكل ويرقيان الى مستوى شهادة تقدير لهذه الامة وارثها الحضاري، وشهادة اثبات جدارة لقدرات ابداعية لا تملكها إلاّ الامم العريقة والمتطلعة ابداً الى نشر اغصان جديدة في فضاءات جديدة.
لم تكن استثنائية العمل التلفزيوني الذي عشنا معه طيلة ايام رمضان المبارك، في انه حمل اسم صلاح الدين موضوعاً، في فترة نحن احوج ما نكون فيها الى استحضار منارات الضوء في تاريخنا، لقطع مرور الزمن على ليلنا الطويل، ولحفز طاقات الحاضر، المتفجرة، وادانة تلك الناعبة بالاحباط، ولتغليب صهيل الاولى على مواء الثانية.
بل كانت قيمته في الكيفية والمستوى اللذين جسد بهما وليد سيف وحاتم علي تلك الحقبة المضيئة.
فمرة أخرى، ولكن في تجاوز نمائي للمرات السابقة، يعود وليد سيف عملاقاً في سيناريو المسلسل التاريخي، عملاقاً في جده ودقته الوثائقيتين، في رؤيته القومية الموقفية، والتحليلية الفائضة في اعماق فلسفة التاريخ، وتشابكات عناصره، كما في اعماق النفس البشرية وألوان سيكولوجيتها مكوناتها ومحرضاتها. فإذا كل عبارة حكمة كاملة وكل معالجة لموقف دراما متكاملة، وكل حوار براعة تلقف واعادة خارج المتوقع، تشدك فيه المفاجأة المنطقية الى دهشة المتابعة، دهشة لم تكن لتتواصل في الامساك بلهفتك لولا تلك اللغة العالية التي تذوب فيها بلاغة مبينة بدرامية معقدة بشعرية هي ميزة هذا الكاتب الذي بدأ شاعراً، ثم حول مياه قصيدته لتصب في حقول الدراما، فتخصبها. ويزيدها تأثيراً الطابع التراثي الاسلامي لبنية العبارة، وصيغة التخاطب.
الآن وليد سيف قد قارب هذه المرة قامة – لا كالآخرين – ومعيناً خاص الاشعاع في تاريخنا، تعزز خصوصيته فجوة افتقاده في حاضرنا المر؟ ام لأنه هو هو الكاتب الراسخ المتطور والبارع في حبكة البنية الدرامية لاعماله؟
ربما الاثنين معاً، والمهم أننا حصلنا نصاً يثبت مرة أخرى، ان النص يظل في اساس نجاح اي عمل درامي، حتى ولو حول المبدع الآخر، المخرج، بعض النص الى حركة وصوت وصورة.
هذا المبدع الآخر، الخلاق، المجسد اسمه هذه المرة: حاتم علي.. وقد تمكن ان يتمثل النص، والموضوع، وان يجسدهما لنا في مستوى يمكننا ان نقف به في صف كبرى الاعمال العالمية.
فاذا كل حلقة عمل قائم بحد ذاته، تفتح نهاياتها على القادم، واذ ادارة الاداء والمشهد والحركة، الربط والتواتر، المد والتقطيع، تشف كلها عن رؤية واضحة وكبيرة لمخرج كبير، من ذلك النوع الذي يقنعك بأنه رأى بعيني ابداعه المغمضتين شريط العمل كاملاً قبل أن ينفذه.
(بمعنى اكتمال الرؤية، لا بمعنى مصادرة حرية التعديل والتطوير).
وإذا كان حاتم علي قد ملك ادواته فان ممثليه لم يكونوا اقل منه امتلاكاً لخاصتهم، بحيث ان البعض منهم فاجأنا بتفوقه على ذاته، في اعماله السابقة. مما يعود دون شك الى الموضوع والنص والاخراج.
كذلك لم تكن عناصر السينوغرافيا، من ملابس واكسسوار وديكور، ولا عناصر العرض الاخرى من موسيقى، وخلفيات ومؤثرات صوتية، وحتى ادارة المعارك، الاّ لتتضافر معاً في انجاح العمل، الذي اكتمل بشارته الرائعة في اختيارها لقصيدة الكبير محمود درويش: عابرون في كلام عابر، بصوت مناسب جداً في نبرته وادائه، هو صوت اصالة نصري.
والنتيجة، عمل كبير، يقدم نموذجاً لدور الثقافة، والفن، في ارساء الوعي العام، تحفيز الطاقات، ومقاومة التيئيس، كما يشكل نموذجاً لما يعنيه مفهوم المقاومة على الساحة الثقافية، ويصب في عمق مقاومة التطبيع، بتحصين الذات، وغسل الغبار المتكلس عليها، واطلاق رؤاها من جذور الماضي الى آفاق آتٍ، آتٍ ولو من بعيد.
عمل يقول ان فكرة كبيرة، قد يسقطها العمل الفني ان لم يكن بمستواها، وقد يجوهرها ويطلقها ويفعلها اذا كان مستواه الفني بمستواها.
عمل لا نطالب فقط بضرورة اعادة بثه، مرات، ومرات. بل وبضرورة ترجمته الى اللغات الاجنبية: الانكليزية على الاقل.