قبل اقل من عامين..
وعندما كانت اسرائيل تعلن انسحابها الاحادي الجانب من لبنان، كنا نكتب في هذه الزاوية محذرين من ان الخارج علنا من البوابة الجنوبية، سيعمل على ان يعود خفية، مقنعا من الشباك المثني البيروتي..
كان من البديهي الانتباه الى ان اسرائيل لن تلتزم بتوبة مسيحية بعد الانسحاب، ولن تطفىء غليل الحقد والغيظ الا بانتقام يحفر عميقا في العظم اللبناني والسوري.
كما كان من البديهي ان جماعة اسرائيل في لبنان، يهود الداخل الاشد خطرا من يهود الخارج، اولئك المعتقون في عمالتهم للكيان الصهيوني، لن يتحولوا الى قوميين مرتدين عن طائفيتهم وانعزاليتهم بمجرد تحقق انتصار في الجنوب.
بل ان ولادة هذا الانتصار على ايد قومية واسلامية وبمصل سوري، لن يكون من شأنها الا وان تعمق حقدهم، حتى وان اضطرهم الامر الى السكوت والنفاق وركوب موجة الاجماع الوطني والالتفاف حول المقاومة. فلا بأس من الكذب او الصمت على مضض فترة، يطبخ خلالها، وعلى نار هادئة وفي ظلمة التخفي، التفجير الجديد القديم.
والاسلوب: هو هو … لقاءات تنظم في الخارج، في اوروبا (خاصة فرنسا) وقبرص بين الاسرائيليين وعملائهم »الكبار« وبين رجال أمن من الطرفين. خاصة وان هناك عناصر جاهزة ومتوفرة تتمثل في اولئك: »المنفيين«، او الهاربين من قيادات القوات اللبنانية المنحلة خاصة، وقيادات التيار العوني واطراف لبنانية اخرى.
كما تتمثل في اولئك »التائبين كذبا« سواء من صفوف القوات والكتائب والاحرار او من صفوف الجيش العميل في الجنوب، الذين عادوا وانخرطوا في المؤسسات اللبنانية دون ان ندري من منهم يعمل صادقا ومن رياء ومن بتكليف من موجهيه السابقين.
وفي اطار ذلك كله، كانت الظروف تتهيأ اكثر لعملية شحن هائلة تدفع في شرايين الشارع، خاصة جيل الشباب، ظروف تتمثل اولا في الازمة الاقتصادية التي لم يشتد طوقها حول عنق لبنان، الا ثمنا لالتزامه بخيار المقاومة وحمايتها، وعدم قبوله بتحويل جيشه الى شرطي لحماية اسرائيل في الجنوب، ولالتزامه بتلازم المسارين السوري واللبناني. وتكون الوسيلة الافضل هي تحويل وسيلة الضغط الاجنبية على البلد الى وسيلة ضغط داخلية على الحكم لدفعه الى تغيير موقفه. وذلك ما يصبح سهلا في ظرف معاناة الناس من الضائقة الاقتصادية.
كما تتمثل ثانيا في الجو الطائفي الذي يصل في توتره وعلنيته ووقاحته المستعرة، حدا لم يسبق ان بلغه سابقا. حدا يصل معه الى ان يكون التعريف الوحيد، المستقر للتجمعات السياسية في البلد.
وتتمثل ثالثا في نتائج العزل الكلي الذي نشأ في ظله هذا الجيل، الذي يشكل الآن الشباب. جيل ولد في جو الحرب الاهلية فنشأ منغلقا محدودا مقفلا، وبالتالي سطحيا مهمشا، ليس اسهل من استثاره غرائز الفئوية والطائفية وكل انواع النعرات والحساسيات لديه.
وتتمثل رابعا في جو الفساد الاداري والمالي الذي يفرق فيه معظم المسؤولين في ادارة الدولة خاصة الجهاز التنفيذي والبرلماني. خاصة وان الايدي الخفية التي تعمل على الشحن والاثارة تسلط الضوء الكشاف على كل تفصيلة في هذا الفساد امام عيني المواطن.
اما العنصر الاخير، والخطير، فهو الاخطاء التي وقعت فيها العلاقة اللبنانية – السورية، ومسلكيات التواجد السوري في لبنان، والتي كان من الممكن تفاديها عبر مسربين:
– ضبط السلوكيات، سواء السياسي منها، او اليومي المعيش المتعلق باحتكاك المواطن العادي بهذا التواجد.
– والعمل الاعلامي الثقافي، على بناء علاقة وحدوية حقيقية، وتوعية المواطن باهمية هذه العلاقة وفائدتها له، ومخاطر انفصامها، بدلا من ترك الاحساس بعلاقة وصاية وتواطؤ بين اطراف الطبقة السياسية على المصالح الشخصية المشتركة فقط.
وفي هذا المسرب كان من المفروض الافادة من دروس التاريخ، ومنها تجربة الوحدة المصرية السورية.
في ظل هذه الظروف جميعها. كان من السهل شحن الشباب والرأي العام، على يد جميع الذين يشكلون السوس الذي ينخر البنيان الوطني.
وعندما وضعت الدولة يدها على واقعة التآمر بين القيادات العميلة واسرائيل، وادركت ان هذا التآمر هو ما يحرك الشارع، بحجة التحرك ضد الوجود السوري. تصرفت بشكل خاطىء زاد الطين بلة.
فبدلا من ان تلقي القبض على المشبوهين وتفضح تعاملهم، وتتجه بحملة توعية الى الشباب، قامت بشكل ارعن وغير مدروس بالتعامل العنيف المرفوض مع هؤلاء – وهم اكثر رعونة وغباء واستشراسا – مما اعطى الحجة للدهاقنة لتحويل القضية الى قضية حريات، واعطائها بذلك بريقا يمنح فرصة الاستغلال لجميع المستغلين، ويحرج الواعين للعبة، ويجتذب بعض المحايدين، والاهم يمنح مؤيدي العمالة والطائفية والانعزال قناعا جذابا كاذبا يتسترون به.