بل انه يصبح مفهوما جدا عندما يستعمله اليهود عنوانا لمؤتمر يعقدونه دوريا، بمشاركة مؤرخين وسياسيين وكتّاب لترسيخ ذاكرة ما يسمونه بالهولوكوست، والهدف كما يدل العنوان بدقة توظيف هذا الماضي وذاكرته لخدمة المستقبل: مستقبل الدولة العبرية التي لم تكن في الماضي الا حلما، لكن تحققه لم يخرجه في الحاضر من مأزقه الجرمي ومأزق استحالة الغاء صاحب الحق، ومستقبل الهيمنة اليهودية على العالم، لخدمة المشروع الصهيوني، الذي يتغذى اما بدمائنا او بكراماتنا.
هذا الكلام، اصبح مكررا، دون ان يصبح مملا، لانه لم يدق بعد، رغم التكرار، جدران خزّان التنبه العربي الذي لم يصل بعد الى كل ما ومن يجب ان يصل اليه.
اما مناسبة تذكر »ذاكرة للمستقبل« فتعود الى امرين قد يبدوان متباعدين:
مؤتمر عقد في بيروت، وخبر عن تجريف الجيش الاسرائيلي لمقبرة اسلامية في قرية كفار سابا في فلسطين المحتلة.
اما مؤتمر بيروت، فقد نظمته قبل شهرين مجموعة، على رأسها من الجانب العربي الروائي اللبناني الياس خوري، ولان العنوان يبدو غائما: »ذاكرة للمستقبل« ولان ما قيل في وسائل الاعلام هو ان موضوع المؤتمر مراجعة الحرب اللبنانية، ولان معظم المثقفين العرب، لم يكونوا يعرفون ماذا يعنيه هذا العنوان، اضافة الى التحفظ الاعلامي، فقد مرّ المؤتمر دون ان ينتبه اليه احد.
غير ان واقع الامر، ان المبادرة الحقيقية التي اتخذت غطاء لها الياس خوري وجماعته، وهي مبادرة مثقفين يهود فرنسيين، دفعوا اللبنانيين ونسقوا معهم، تحت عنوان المؤتمر اليهودي المألوف الدوري، وغطوا ذلك بحجة الحرب اللبنانية.
كما ان هذه المبادرة جاءت لترد على المؤتمر الاخر الذي كان سيعقد في بيروت تحت عنوان »الصهيونية والمراجعة التاريخية« باختصار، كان الصراع الخفي بين مشروعين المشروع الصهيوني وحلفائه، حتى من العرب، والمشروع المناقض وحلفائه حتى من الغربيين.
وذلك بدليل ان ذات الاسماء التي قادت مؤتمر ذاكرة للمستقبل، كانت من بين الذين وقعّوا على البيان الذي طالب السلطات اللبنانية بقمع مؤتمر المراجعة والصهيونية، خاصة الياس خوري.
وبدليل ان جلسات المؤتمر الثاني قد تحولت الى طرح موضوع الهولوكوست وترسيخه وتوظيفه.
لقد جاء الفريق الثاني، بعنوان واضح وصريح ذكر الصهيونية باسمها فتألبت جميع القوى لمنعه، وجاء الفريق الثاني بعنوان خبيث، وستارة كاذبة هي الحرب اللبنانية، فلم يتحرك احد ضده، وعقد اليهود مؤتمرهم الدوري باسم بعض اللبنانيين.
اما علاقة هذا كله بالمقابر، فيعود الى افتعال حادثة انتهاك قبر في مقبرة كارنبترا اليهودية في فرنسا، عام ،1990 حركت على اثره المنظمات اليهودية مظاهرة من ثمانين الف شخص، تقدمها رئيس الجمهورية في حينه، فرانسوا ميتران، وكان توجه تأثيرها النفسي الى امرين:
– استصدار قانون فابيوس – غايسو الذي يحرم المراجعة التاريخية لنتائج محاكمة نورنبرغ، اي منع المس بأسطورة الهولوكوست.
– والتأثير في قرار مشاركة فرنسا في التحالف الدولي ضد العراق.
ونجح الافتعال والتلفيق، واستثارة المشاعر وعقد الذنب وتحقق المطلبان.
وعندما تبين بعدئذ ان الحادثة كلها كانت مفتعلة وكاذبة، وراحت الاصوات تطالب بالتحقيق، رفض وزير الداخلية اليهودي بيير جوكس، ذلك.. كي لا يكشف التحقيق الاكذوبة الجديدة التي وظفت لترسيخ دوغما الاكذوبة القديمة.
هكذا يوظف الماضي دائما للمستقبل، هكذا يستعمل الموتى لتغذية الاحياء..
فلماذا لا تستغل حوادث انتهاك المقابر العربية »وليست كفار سابا هي الاولى«، للتأكيد على عنصرية اسرائيل، وعرقيتها.. خاصة مع اقتراب مؤتمر جنوب افريقيا؟