“نحن نفضل خطاً يمتد من بيروت الى دمشق فبغداد، فالبصرة، فطهران، على خط يلتف حول المتوسط”.
هذا التصريح ادلى به مسؤول في وفد سوريا الى المفاوضات المتعددة في النصف الاول من التسعينات، لمجلة (ارابي) العربية الصادرة بالفرنسية. ولم تكرره – بحسب علمي – وسائل الاعلام العربية.
وبالامس، خرج طارق عزيز، يدعو “بالعربية” ولصحيفة لبنانية، الى التكامل الاقتصادي بين لبنان وسوريا والاردن والعراق.
دعوة هذا المسؤول القومي الكبير، تحمل في صيغتها اكثر من دلالة بالغة الأهمية.
اولها: الانطلاق من واقعية عقلانية، عاقلة تؤسس على الجغرافيا، على المرحلية التي اصبحت ضرورية لتجاوز التراكمات، على الاقتصاد، الذي يشكل اسهل البدايات، لأسباب كثيرة.
فالقول بالعروبة، لا يتناقض مع التأسيس على الوحدات الجغرافية ضمن العالم العربي، وذاك ما سبقنا اليه المغاربة، والخليجيون، ولم يتهمهم أحد لا بالانعزال ولا بالاقليمية لأنهم ليسوا كذلك. ولأن جبهة عربية متينة لا يمكن أن تقوم بقفزات بهلوانية فوق الحدود والمدى.
اما المرحلية، فليس المقصود بها فقط المرحلية الجغرافية، وانما ايضاً المرحلية في خطوات التوحيد نفسها، حيث تجاوزت تراكمات سايكس بيكو، وتراكمات السلوكيات السياسية الخرقاء بين قطر وقطر، وتراكمات حقن الحس الانعزالي والمشاعر المريضة امكانية محوها كلها بقرار فوقي، واصبح لا بد من زلزلتها تدريجياً، عبر الاقتصاد، في عالم، تحركه المصالح، وفي مرحلة تزحف فيها مجزرة العولمة الاميركية – اليهودية، ولا يفعل العملاق المستلقي امامها، الا عد اسنان الجنزير الذي يصعد فوقه..
وثانيها: هو بروز توجه تصالحي، يعترف ضمناً، بأن العراق اقوى بسوريا، وسوريا اقوى بالعراق، والصغيران لبنان والاردن غير مؤهلين للحياة بدون الاثنين.
اما فلسطين، رأس الحربة المقاوم، وساحة الصراع المركزي، حتى عندما يترجم هذا الصراع نفسه قصفاً لبغداد والبصرة، او اجتياحاً للبنان، او احتلالاً لسوريا، فليس ابلغ في التعبير عن وضعها مما قاله ارنولد توينبي في بغداد قبل اكثر من نصف قرن، ونقله الاستاذ محمود الشريف، ما معناه ان مشكلة اليهود انهم يقاتلون في فلسطين شعباً، هو الواجهة، اما مداه، خطه الخلفي، فلا محدود.
اللا محدود هذا، هو أولاً البعد السوري (في سوريا الطبيعية)، والبعد العربي، ومن ثم البعد الاسلامي، وهو مرشح للتطور، لو احسنا العمل الى بعد آخر يضم جميع انصار العدل والحق في العالم.
لكن هل يمكن أن يكون بناء هذه المداميك الثلاثة، او الاربعة صلباً متماسكاً، اذا كان المدماك الاول فيه مفككاً مزعزعاً؟
وببساطة ومباشرة اكبر: هل يمكن ان يشرق اول شعاع امل لتدعيم وتمتين هذا الخط إلاّ باتحاد سوريا والعراق.. ولتبدأ الأمور بالاقتصاد او بالشياطين.. المهم ان تصل..
والمهم لذلك عدم العودة الى اخطاء الماضي، ليس فقط على ساحة كلا البلدين وانما ايضاً على الساحات الأخرى، خاصة اللبنانية، التي لا يمكن لاستراتيجي كطارق عزيز ان يكون قد اختارها لاطلاق دعوته، صدفة.
فلا يمكن دعم التوجه القومي إلاّ بالقوميين.. هذه بديهية.. ولكن طالما تجاهلت السياسة العربية البديهيات..
كما أنه لا يمكن ان تستبعد وأنت تدعي القومية، شقك الآخر في دعواك لمجرد انه “الشق الآخر” لا.. ولا..
ولكن لنكن مع النعم.. والنعم.. كي نكون بحجم التحدي القادم:
فثمة معادلات رسمتها اميركا واليهود واسرائيل.. وثمة قلب نوراني لهذه المعادلات. الانتخابات الرئاسية الأميركية ستنتهي: والخطوة خطوة، وصلت الآن الى سوريا، وستصل الى العراق.. وتحريك الانعزاليين اللبنانيين لا ينفصل عن استحقاقات تحرير الجنوب وهذه الخطوات القادمة.
لكن الانفجار الفلسطيني قلب الطاولة وحطم زجاجة المخدر.. في الوقت الذي حطم فيه العراق حصاره.
وإذا كان لا بد ان تعود الأمور في النهاية الى شكل من اشكال التفاوض.. فليس ضرورياً ان يكون ذلك قدر الجميع، (خاصة بعد تهاوي الحصار على العراق) ثم ان لعبة عض الاصابع ستصبح اصعب واشد.. وكم سيكون افضل تضافر القوى في فك واحد…
هذا طبعاً اضافة الى البعد الاستراتيجي القومي، الذي لا يحصر الوحدة والنهضة في مواجهة عدو.
مرة كتب نزار قباني:
هل كان علينا أن نخسر بيروت لنربح قصيدة؟
لكن طارق عزيز استذكر المثل الشائع: “خير ان تصل متأخراً من ألا تصل ابداً”.*