مرة اراد لها رابين ان تغرق في البحر.. وها هو تلميذه وخليفته يغرقها في الموت والظلام..
عادتهم ان يأتوا في الظلام ليغرقوا الاخر في الظلام، مذ تسلل رواد راجاب الى اريحا الى تسلل باراك فتاة شقراء الى فردان.
هؤلاء الذين لم يصلوا رغم كل العبر الى قراءة التاريخ، ولا حتى قراءة دوران الارض حول الشمس، اذ ما من ليل لا يعقبه نهار، حتى ولو كان ليلا قطبيا او ليل شمال اوروبا »فكرة: تراهم اختاروا النرويج، للتيمن بطول الليل؟..«.
عندما انتصرت روما على هنيبعل كلف مجلس الشيوخ، سيبون باحراق قرطاجة وعندما وقف القائد المنتصر امام المدينة، صمت طويلا، ثم انتحى جانبا وبكى.. نادى مرافقه المؤرخ بيلوب، الذي ارّخ لصعود الامبراطورية الرومانية ليقول له: »انه يوم جميل لكنني اشعر بشيء من القلق والتوجس من يوم يأتي، ويقف فيه انسان اخر، ليوجه انذارا مشابها لبلادي«.
وبذكاء بارع التقط بيلوب البعد السيكولوجي للموضوع، ونذر جميع كتبه اللاحقة للرد عليه، بان يحوّل خوف النهاية الى ثقة بالبداية، ان يحوّر التاريخ كي يعطي روما رسالة قائمة على مبدأ ان نصرها لم يكن اعتباطيا، بل علامة على قدر خاص..
لكن شلالات عرق بيلوب، لم تستطع ان تنتصر على دمعة سيبون في النهاية، لان الثانية هي الحقيقة والاولى هي افتعال تبرير الطارىء..
عادت قرطاج لتونس، عادت صيدا المحترقة لشاطئها الفينيقي الكنعاني الى امتداده الطبيعي رغم اصرار سعيد عقل على غسله كي يتقلص الى مدى انعزالي، عادت عكا من اسر صليبي، وعاد المحتلون الى بلادهم.
لكن هؤلاء محتلون من نوع اخر، محتلون يرفض كل منهم بلاده، يبتكر بدعة الطلاق من الام، والانتماء الى ام واحدة، ما هي الا ايديولوجية الاسطورة العرقية العنصرية، المربوطة بإله، هو نفسه نوع خاص من الآلهة.
كل ذلك لن يجعلهم الا عابرين.. ولانهم، ربما في لاوعي بعضهم، ربما في وعي البعض الاخر.. وربما في لاوعيهم الجمعي، يدركون قدر العبور.. فان شراستهم تتضاعف وتستعر، حال كل جلاّد تجحظ عيناه، ويتدفق الزبد من فمه، وينهال مجنونا على ضحية، يرفض منحها اعترافا، او تنازلا، او شرعية.. يصر على ان يراها كما هي، لا كما يريد.. ويستثير جنونه بقوة لا تسترها قيود الضعاف، وضعف لا تستره كل مقومات القوة..
واذا خوف النهاية، الذي تملك سيبون حقيقة واقعية وسيكولوجية، اصر هؤلاء الفلسطينيون على ايداعها في صندوق، ورمي مفتاحه في بحر غزة.. فكيف لا تحرق المدينة، وكل ما انتمى اليها من مدن؟!
لكن.. البحر الذي يجبر على حمل قاذفات الصواريخ، عصي على ان يجبر على حمل المفتاح الى يد جنرال وقح او سياسي مراوغ.. المفتاح غارق في القاع، وربما ابتلعته سمكة، تحول في جوفها الى خريطة جغرافية.. انتهت الى صدر فلسطينية.
خوف النهاية قدر، لا راد لقضائه، قد يبدأ منه تحرير اليهودي من مرض يهوديته، ليعود انسانا، ككل الاخرين، لا يتعالى ولا يحقد عليهم، فلا يرتدون عليه..
ولكن اهو قدرنا نحن ان نحمل وزر تحرير مزدوج، لسنا مسؤولين الا عن شق منه؟