مرة هرب من مواجهته، ومرة جاء يقف تحت صورته..
مرة رفض ان يضع على رأسه القبعة العسكرية ليمضي الى فيتنام، ومرة جاءها وفوق رأسه هوشي منه…
ولكن، ليسجل بكلا الموقفين، ربما افضل خطوتين اتخذهما في حياته السياسية، منذ أن كان شاباً اميركياً عادياً، يرفض العنف الاجرامي الاستعماري في بلاد الجنرال جياب، الى آخر خطوة يتخذها قبل ان يغادر منصبه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية.
الرئيس الراحل حافظ الأسد التقط هذه اللمحة، فجعلها مدخلاً لحواره مع كلينتون في جنيف، مبديا – بدهائه السياسي – تقديره لرئيس بدأ حياته برفض المشاركة في الاستعمار والاحتلال وقهر ارادة الشعوب بالعنف، وتفوق القوة.
وكان هذا التقدير، التذكير، يحمل ضمناً، اضافة الى المطالبة بموقف مشابه، تذكيراً بطائرة غادرت سطح السفارة الاميركية في هانوي تحمل آخر قوات الاحتلال والعدوان، وآخر المتعاونين معها.
لكن.. لا كلينتون الرئيس، هو كلينتون الشاب الحر.. ولا هبوط الطائرة الرئاسية في هانوي شبيه باقلاع الطائرة العسكرية منها.
رغم ذلك فان بين الطائرتين، اقلاعاً مشابهاً لآخر سيارة عسكرية اسرائيلية من جنوب لبنان، ومعها المحتلون والمتعاونون.
بينهما شعب يقاتل برجاله ونسائه واطفاله في فلسطين، حقول تحرقها الدبابات الاسرائيلية، الأمريكية، واطفال تشوههم القذائف. وقدر يتجه، ان لم يجهض الى قدر فيتنام، وكل فيتنام في التاريخ.
و”إن لم يجهض” هذه، لا تحمل فقط خطر الاجهاض الخارجي، الذي تعمل عليه واشنطن ووراءها بعض اوروبا، ولا خطر الاجهاض الاسرائيلي الذي اثبتت التجربة تأثيره المعكوس. وانما خطر الاجهاض الداخلي، الاجهاض السياسي الذي يمهد له بفرش ارضية سيكولوجية، متعددة التجليات، التي من أبرزها اسئلة تطرح يومياً من مثل: الى أين؟ وهل نستمر في هذه القائمة من القتلى والجرحى؟ وكيف يتحمل الناس الاقفال والحصار والتردي الاقتصادي؟ وأين العرب والمسلمون؟… الخ…
حضور فيتنام على شاشات الاعلام والذاكرة، يحمل الى الذهن الاجابة على هذه الاسئلة جميعاً…
الى وقفة رسمية صاغرة، تحت علم فلسطيني، وصورة رمز محرر، لا ندري من يكون.. طالما أن صورة هوشي منه لم تتبلور بعد في واحد.
أما القتلى والجرحى، فرقم الثلاثة ملايين الذي حملته فيتنام، يجعلنا نخجل من استهوال رقم المئات او الآلاف الذي سجلناه على امتداد الخمسين عاماً، وعلى امتداد المواجهة بين هذه الأمة واسرائيل.
دون أن يعني هذا اطلاقاً استرخاص أرواح الناس وعذاباتهم، او الاصرار في موت اكثر.. لكنها حرب تحرير واستقلال، ولم نقرأ في كل تجارب الأمم الحرة سهولة تحقيق هذين الانجازين، بالقليل من الدماء والتضحيات.
اما الغريب في هذا السياق فهو أن الذي يستهول ويصرخ ليس الناس في الداخل الفلسطيني، وهم الذين يعانون، وانما القيادات السياسية، والمترهلون في الخارج والداخل الذين يخافون من ان يزلزل الاستمرار مصالحهم الاستهلاكية.
وتظل المقارنة التي تبدو منطقية، في ان فيتنام صمدت لأن الاتحاد السوفيتي كان وراءها وكان قائماً.
وهنا يبرز ردّان واضحان:
1- إذا كان المقصود قصور البعدين العربي والاسلامي، فانه ما من عاقل يتخيل ان تحريك هاتين الساحتين يمكن ان يتم بمسحة رسول، والذي لا يعترف بالتغير الذي طرأ على هاتين الساحتين، والذي يصلح لأن يشكل بداية ممتازة، لا يضمن استمرار تطورها إلاّ استمرار الحافز – الانتفاضة -.
2- ان المبالغة في الاعتماد على هذين البعدين هو من باب ذر الرماد في العيون. فهل ذهب الجيش اللبناني للمشاركة في حرب الجزائر؟ وهل جاء السوفييت بعناصرهم وقواتهم للقتال في فيتنام؟
الذي قاتل هم الفيتاميون، والآخرون قدموا الدعم، اذ كانت لهم مصلحة في ذلك.
وقد دعمنا الاتحاد السوفيتي في حينها، فماذا أنجزنا؟
ببساطة مطلقة: لا أحد يقاتل عن أحد.. وإن حصل، حل المقاتل الجديد مستعمراً جديداً مكان المستعمر القديم.. هذا هو منطق التاريخ.
هذا التاريخ، الذي علمنا، مع انهيار الاتحاد السوفيتي ماذا يحدث عندما يكون وجودك مستنداً الى قوة خارج ذاتك.
كما علمتنا تجربة كوبا، ان بامكان المؤمن والقوي بذاته، ان يبقى ولو انهار الجميع.