ليس من المطلوب ان تتفق معه في كل ما يطرح، فتوافق المئة في المئة غير ممكن بين عقلين نشطين.
ولست هنا في مجال مناقشة محاضرة الدكتور مصطفى البرغوثي في مؤسسة شومان قبل يومين، نقطة نقطة.. وقد يكون لذلك مجال اخر.
اما الجانب المهم، وربما الاهم، فهو نوعية الخطاب: لغته ومفرداته، نبرته ووسائله.. وارضيته.
ومن الاخيرة، فهي ارضية صلبة واضحة لانها ارضية الواقع الذي يشد التنظير الى ملموسيته، وسطوعه، بدلا من تنظير يمط الواقع يقصقصه او يضغطه ليعيد تفصيله على قياس التنظير وبالتالي يجرجره وراءه.. والنتيجة كلام لا يقول وبالتالي لا يفعل..
خطاب اقصى ما يصل اليه ملامسة الغرائز ونادرا العواطف، وتنويم فعاليات العقل والفعل.
انطلاقا من هنا يأتي اختلاف اللغة، لغة تضع الاصبع على القصد، ولا يزيد مقاسها اطلاقا عن جسد المعنى. وتستغني عن كل سذاجة الصفات ما كان منها شتما ام مديحا.. وكل نفاق الايحاء والاتكاء.
اجل خطاب لا يتكئ على ما يثير او يقمع، بل يستند الى ما يقنع: المعلومة واقعية وعلمية، الرقم، محدد ودقيق، الخريطة تتجاوز السمع الى العين وتسلك منها الى العقل والى الاصابع نارا.
هي المفردات، لا اللفظ، وحتى هذا الاخير، فواضح ومقنع، لا يعطي الامور غير اسمائها.
وهي الوسائل، لانها تعتمد العرض، فالتحليل، فالاستنتاج، والاقناع.
لا تكتفي بان تقول ان اليهودي يتعالى، ويمارس التمييز العنصري، بل تقول مثلا ان حصته من مياه الضفة الغربية 1800 متر مقابل 50 للعربي..
لا تكتفي بطرح عبثية التعامل الاقتصادي مع اسرائيل، وهراء الحديث عن رخاء اقتصادي يمكن ان يأتي من التعامل معها، بل يقدم رسما بيانيا مصورا لنسب الاجور والاسعار ومستوى المعيشة..
وغير ذلك.
وسائل لا تطرح موافقات، ولا احتجاجات بل منهج عمل، يتخذ شكل الدوائر المتضمنة المتتالية: الساحة الفلسطينية على ارض فلسطين، الساحة الفلسطينية في كل مكان، الساحة العربية، ومن ثم الدائرة الاسلامية، فالدولية، وهنا يتوقف ليعترف بان الامر بالغ الصعوبة، بسبب نفوذ اللوبيات اليهودية البالغ، خاصة في الغرب، ويصل منطقيا الى قضية الاعلام الخارجي.
هذا الموضوع الخطير الذي اثرناه مرارا في هذه الزاوية، وكان آخرها نداء لاتحاد الصحفيين العرب، لتبني آلية معينة مؤثرة في التعامل مع الاعلام الخارجي.
نداء لا يقف عند المطالبة بفضائيات ناطقة باللغات الاخرى، وهذا جيد، وانما يتجاوز الى استراتيجية اختراق وسائل الاعلام الاجنبية نفسها، وليس هذا مستحيلا بدليل الظواهر البالغة الايجابية التي لا يستطيع اي متابع انكارها.. وبفعل التأثير المتبادل بين الرأي العام والاعلام، حيث نجد مدير القناه الاولى الفرنسية يعترف بان مئة رسالة وردته، حول احداث فلسطين، ستون منها كان متعاطفا مع العرب وضد اسرائيل.
كما نجد من جهة اخرى، مقالات وتحقيقات، وصورا، بل واعداد مطبوعات لم نكن نتخيل يوما صدورها في الغرب، بموضوعيتها وتفاعلها معنا.
صحيح ان هذا التوجه ما يزال جديدا، وما يزال اقل من الطوفان اليهودي، وما يزال مهددا بالخنق.. ولكن ماذا نفعل نحن، كباحثين، كاعلاميين، وكحركات سياسية، للتعامل معه ودعمه.. بالتوجه اليه بخطاب يقبله العقل الغربي، ويقتنع به؟ فربما نكون هنا بحاجة الى شحنة المتنبي، لكننا هناك بحاجة الى ديكارت..
لذا تمنيت ان تقدم محاضرة البرغوثي في جميع العواصم الاوروبية.. وحتى الاميركية.. رغم تحفظ.. ساتناوله غدا.. على بعض ما جاء فيها.