عوني كرومي والـ “قديسون”

ثقافة، فنون، فكر ومجتمع، 21-09-2000

“هؤلاء الناس قديسون.. كل واحد فيهم قديس”

هاتف الصباح، الصوت الصديق القادم من بعيد، من برلين، العائد من الهنا القريب، من فلسطين، يحدثني بانبهار، بما اسماه »الصدمة« عن الناس في الداخل..

الشجرة الباسقة، التي كبرت على ضفاف دجلة، وارتحلت يوما الى ضفاف الدانوب، لتتابع البحث في تاريخ المسرح العراقي القديم، لتعود، لا بكرتونة شهادة، ولا بمجرد »دال نقطة« تسبق الاسم، فتوهم ان لصاحبها علما مختلفا، بل بعلم حقيقي، وموهبة فذة، وقدرة لا مثيل لها على البناء، بناء الاخرين، لا تسوّل اعتراف بذات ضامرة..

المبدع الكبير، الذي مرّ بنا هنا، مرب بان مبدع، قبل ان يقذف به البعد من جديد الى ضفاف الدانوب، فيجعل منها مجرد مستقر، ينطلق منه الى كل بيئة مسرحية عربية، من المحيط الى الخليج، في دأب لا ينقطع، وبين كل رحلة بناء واخرى محطة، ينجز فيها في اوروبا، عملا تراثيا عربيا، اشوريا، بابليا الخ… وبممثلين عرب، من اولئك الكثيرين الذين قذف بهم الموج بعيدا.. يجمع الشباب ويعيدون اعمالا عراقية يجولون بها اوروبا، ويستعيد شباب الشيوخ، فيحيي ممثلا كبيرا كخليل شوقي، ويعيده الى المسرح، ويجد هناك مبدعا اوروبيا اخر يبني معه عملا مشتركا قائما على لقاء مسرحي بين آلهتي الخصب البابلية والكنعانية وآلهتين اوربيتين مماثلين.

وتقوده محطاته الى ضفاف النهر الثالث: الاردن الى فلسطين.. ليحمل لي صوته، بعد عودته منها، نبرة اخرى، دهشة اخرى.. »كل ما رأيناه، ما نراه، كل ما قرأناه.. لا يشبه شيئا مما هو هناك.. لا شبيه اطلاقا للظروف التي يعيشها هؤلاء الناس.. انهم فعلا قديسون.. ليسوا قديسين لانهم يتحملون.. لا.. وليس لانهم يموتون ويعانون الاضطهاد.. لا.. بل لانهم يصمدون.. لانهم يعرفون، تحت كل هذه الظروف ان مقاومة الرياح العاتية التي تريد اقتلاع جذورهم لا تكون فقط بالقتال، ولا بالسياسة، وانما ايضا بالثقافة.. هل ترين عظمة انه في ذات الوقت الذي كانت تدور فيه مفاوضات كامب ديفيد المتمحورة حول القدس، كانت القدس تحتضن مهرجانا محليا عربيا دوليا للمسرح؟! تافه ما يقوله البعض عن نقص التجهيزات، القيمة الحقيقية لكل هذا هي في كلمتين: نحن هنا.. ونحن لسنا »عابرين في كلام عابر..« لا يمكن لاحد ان يفهم اختلاف التحدي الفلسطيني، اختلافه من حيث البعد الوجودي، عن اي احتلال اخر في العالم او في التاريخ الا متى ذهب الى هناك..

ولا يمكنه ان يفهم ان آلام الشعوب يمكن ان تتحول الى طاقة شحن واصرار على اثبات الذات، مما لا يمكن ان يتحقق الا اذا اتسقت السياسة مع الثقافة مع العلم مع الاقتصاد.. قد يبدو ان ما يفعله هؤلاء الفلسطينيون ما يزال قليلا، لكنه كثير اذا ما لمسنا الظروف التي يتم فيها..

عوني كرومي.. قال لي الكثير.. غص بالدمع عند بعض التفاصيل.. انهى بان الفنانة الجميلة، سامية البكري، »التي شهدنا لها هنا عرض: الزاروب«، ذهبت اليه في المانيا، لينجز لها عرضا هناك تعود فيه الى فلسطين، والى جولة عربية.. هذه المرأة تصر على ان تقف حارسة للذاكرة، عبر زاروب، او عبر اي شيء حي اخر.. وقفة ضد الموت.. او ليس الصراع في العمق صراعا بين ذاكرتين؟

في برلين.. سرنا طويلا على ضفاف الدانوب.. تحدثنا طويلا عن ضفافنا هنا دجلة.. والاردن..

حلمنا بنهوض مشابه للنهوض الالماني من حفرة الهزيمة، الاحتلال، والتجزئة.. انتهينا الى البرلين تياتر، في حضن الحضور الكبير لبرتولد بريخت.. والعنوان الكبير لهذا الحضور: التغيير.. ارتفعت اجنحة الحلم المتراخية..

ارتفعت اكثر في فلسطين قال لي عوني اليوم..

مبالغة ام ايمان؟..

ليكن لنا من الثاني »قدر حبة الخردل«

السيد المسيح يقول: لو كانت لكم من الايمان قدر حبة الخردل لقلتم للجبل – تحرك فيتحرك.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون