اسئلة في الشكل

صحيفة الدستور، 29-08-2000

ليس الامر نكتة، بل انه سؤال حقيقي سمعته بالأمس على احدى المحطات الفضائية العربية، وفي احد البرامج »الثقافية«:

المذيع يرفع حاجبيه معجبا، مبتسما بانبهار ويطرح سؤال العارف عن »وزن« الكتاب الذي الفه الكاتب العالم الجالس سعيدا امامه.

لا تظنوا ابدا ان لكلمة الوزن هنا معنى مجازيا. ابدا فالمذيع قد حددها بدقة ووضوح: هل صحيح ان وزن الكتاب كذا كيلو غرام؟

الآخر لم يبد عليه الانزعاج، ولم يحاول، ولو بدماثة عالمة، ان يجيب بأية صيغة تقول ان القيمة لا تكمن في الوزن، بل بدا واضحا ان السؤال من ذاك النوع المتفق عليه، والذي لا يملك المتحاوران براعة وذكاء، تمثيل تلقائيته، اذ وجده الرجل مدخلا للحديث عن قيمة اعماله، وضخامتها ولشكر الامير الخليجي الذي مولها.

ليس المأزق في هذا الحديث، بذاته، اذ لا بأس من ابراز قيمة عمل ـ اذا كانت له قيمة ـ ولا بأس من شكر ثري يخرج جزءا من ماله لدعم الثقافة والعلوم..

لكن المأزق كله في هذه الشكلانية التي تتفّه كل شيء، وتقتل كل فرصة حقيقية للابداع في شتى مجالات الحياة.

ولا اقصد ـ بالطبع ـ بالشكلانية، ذلك المصطلح المعروف في النقد الادبي، مذهبا ومدرسة خاصين، وانما عملية احلال الشكل مكان مضمونه في جميع مجالات حياتنا، مما يحول هذه الحياة الى جثة بدون روح. واذا نحن ظاهرة موت الحقيقة والجوهر، موت الفعل.. وذ اولئك الذين ما يزالون يحتفظون بارواحهم، يتململون مختنقين، حانقين، تحت اكوام الجثث الثقيلة، الا يجعل الموت وزن الجثة اثقل من وزن الجسد الحي؟ ويعانون من ارتفاع ضغط الدم، ضريبة اصرار دورتهم الدموية على التحرك عبر جميع الشرايين والاوردة.

لست في مجال التفنن في صياغة الانشاء، فانا احاول ـ عبثا ـ ان اصوغ معاناة.

معاناة لا تحفر عميقا في واقع الحالة الثقافية العربية، وانما في الحالة العربية كلها: ثقافة، سياسة، علوما، اجتماعا، بل وحربا..

اجل فكما يقيّم اخونا الفاضل كتابا علميا بوزنه، يقيم آخر قصيدة بقدرتها على التهريج او على »التغييم والتعويم« ورواية بقدرتها على الاثارة، اما لقب الكاتب، ذاك الذي قدسه المصريون القدماء، وجعلوا تمثاله التمثال الوحيد الذي يخرج عن تقليد الرأس المستقيم، لأن ثقل عقله وحالة التفكير المستمر، تفترضان دلالة تحت الرأس مائلا، فيطلق على كل من يعرف القراءة والكتابة، واما المواقع التي يحتلها هؤلاء العارفون فتتكفل بها اعتبارات لا علاقة لها بجوهر العمل.

واما في السياسة، فاستسلامنا سلام، وهزائمنا انتصارات، وتبعيتنا تحالف، وديمقراطياتنا مسرحيات تراجيكوميدية، والقمع ارادة شعبية ومطلقة.

كذلك في الاقتصاد، فالديون ازدهار، واغراق السوق بالمستورد بحبوحة، وتجميد المال المتداول المستثمر عمران وو… حتى حروبنا.. افلم تكن شكل حروب؟ اكذوبة معارك؟ لتكون الحقيقة الوحيدة الممكنة، هي حقيقة الهزائم. »دون ان يعني ذلك ابدا المس بحقيقة الافراد المقاتلين وتضحياتهم المقدسة، واستعدادهم الكاميكازي للعطاء«.

اشكال.. اشكال مفرغة، مظاهر لا يشترط فيها ان تغلف جوهرا حقيقيا وتسوّق كقشور بيض فارغة، كبالونات ملونة طائرة، تسويق لا تبرع فيه جهة كما تبرع الفضائيات العربية، وكأن فورتها التي تدفقت علينا بعد حرب الخليج، انما صممت لتؤدي هذا الدور.. ولترسخ الحالة المطلوبة في المرحلة الجديدة، فبعد الكسر العسكري، تبدأ مرحلة الاجهاز على الصعيد الثقافي، بما تعنيه الثقافة هنا من مجمل المنجز الحضاري البشري: ادابا، علوما، فنونا، صناعة، تجارة، حياة يومية الخ…

والاجهاز المبرمج والمخطط لنا هو القضاء على حالات النهوض الحقيقي، لا بقمعها مباشرة، كي لا يجعل ذلك منها بطلا يحتذى، بل بتمييع الصورة عبر طغيان التوافه وترسيخ الشكلانية الفارغة، حتى اذا تكثف القش الطافي على وجه الماء، حجب الدر القابع تحته، بل وحتى السمك المتحرك فيه.

من ابسط مثال يتمثل في الاغنية الى القضايا الكبرى، مرورا بكل ما تمر به الحياة، يظل، انها المعركة الخطرة، تفوق خطورتها التحدي العسكري الذي لم يكن الا مقدمة لها، دفعا لكسر باب حصنها، وانه دور الفاعلين الحقيقيين، في جميع المجالات لتنسيق، وتدعيم، لا صمود عنيد، بل وهجوم معاكس منظم.

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون