مسرح من النوع الذي لا تغطيه ستارة، فما يجري بعيدا عن اعين المشاهدين، يجري في الكواليس.. اما على الخشبة فكوميديا سوداء يبرع المخرج فيها في جعل الجمهور ممثلا، والممثل جمهورا..
تعود بنا الذاكرة الى عام 1967 وعرض سعدالله ونوس: “حفلة سمر من اجل 5 حزيران”، واختلاط الممثلين بالقاعة، والقاعة بالممثلين..
لكن العرض الآن اكبر ومختلف: فالضياع بلغ حد تحول القاعة كلها الى مسرح، وغياب مداليل النص، بحيث تكرر المخلوقات الآلية الفاظا لا مداليل لها.. وتصرخ بحناجر لا صوت لها.. وتلوح باذرع لا اكف لها.. بل تمد اكفا مبسوطة لا تقبض على شيء، ولا اظافر لها..
يتمحور النص حول مصطلح التنازلات، ولكن.. ليصبح المتنازل هو المفاوض الاسرائيلي.. وببلادة سوريالية، يتحدث الاعلام »الذي لا يفعل الا ان يكرر ببغائيا ما يطرحه له الاعلام الغربي المهود« عن تنازلات باراك، فاذا قلنا ان هناك بشرا اسمهم فلسطينيون، يعدون ستة ملايين بني آدم، يكون الامر تنازلا.. واذا انسحب الجيش المحتل من بضع بوصات من احتلاله، يكون الامر تنازلا واذا سمح بعودة »رمزية« تضع المسمار الاخير في نعش الحقوق والمطالبة بها، وبدلا من ان يعود الجميع، لان في ذلك تطبيقا لحق وطني، اقرته القرارات الدولية، فيما يعني ضمنا حكما بادانة اسرائيل بالاغتصاب. يصبح في عودة هذا البعض، لمعايير انسانية، شهادة على ان اسرائيل دولة انسانية، متسامحة، تملك الحق، وتتصدق بشيء منه.
ويسمى ذلك تنازلا، لا من قبلنا بل من قبل باراك.
يغتصبون القدس، ويقترحون علينا جمع القمامة فيها، والعبور الى ساحة الصلاة، ويسمى الامر تنازلا، وفي احسن الحالات: تنازلات متبادلة..
غدا سيقول الاعلام الغربي ونردد وراءه انهم قبلوا التنازل عن الجولان… قبلوا التنازل عن حق ملاحقة معارض لهم واوكلوا ذلك الينا.
غدا قد يقال ايضا ان الولايات المتحدة، بدافع انساني عال قبلت التنازل عن جزء من ثمن نفط الخليج للخليجيين، وقبلت التنازل عن اموال العراق المحتجزة لديها، وربما قبلت تنازلا كبيرا بالسماح بتخفيض عدد اطفال العراق الذين يعانون من سوء التغذية من ثلث العدد العام الى الربع، مقابل نفط العراق مثلا..
قد نردد غدا ان تركيا قبلت التنازل عن قدر من مياه دجلة والفرات، وعن تعطيش العراقيين والسوريين »دون ان يعني ذلك عدم تخفيض منسوب النهرين، وتجفيف الاراضي الزراعية«.
ولكن: هل استطاع احد ان يقول يوما ان اليهود تنازلوا وانسحبوا من جنوب لبنان؟ وقبل ذلك تنازلوا وتعاملوا مع زلزال الانتفاضة؟
ان من يقبل الجلوس تحت المائدة، لا يمكن ان يتوقع الا الفتات، ومن يقبل التخلي عن حقه، لا يمكنه ان يتوقع من الآخرين التبرع به له.
وآلم ما في الكوميديا السوداء الدائرة ان نقلب المصطلحات والادوار، ونسمي الاشياء بنقائضها.
لكنه غياب الفعل، يفرغ اللغة، ويحولها الى ملابس طائرة في الهواء، يتلقفها من يريد، ويلبسها لاي جسد يريد، كبيرا عليها كان او صغيرا، اليفا او غريبا..
انه زمن الترهل، فهل يتحول الى »اوان الشد«؟