لماذا انتصر الجنوب؟
هل يمكن لي ان اجيب على هذا السؤال الذي طرحته لجنة النقباء في مجمع النقابات المهنية، وطلبت مني ان اتحدث عنه امس؟
هل ابحث في قوة الموروث التاريخي الذي يكون الفرد، بكونه ليس فردا معزولا عن امتداده التاريخي والاجتماعي؟ وتكون الشعوب بما هي عليه من امتداد اجيال؟
كاتبة فيتنامية، حللت انتصار فيتنام على الاميركيين، بسيكولوجية شعب لم يفهمها هؤلاء الاخرون، اكتفت لتفسيرها بأن تروي اسطورة معروفة في تاريخ فيتنام، تعود الى الفي سنة، عندما اجتاح المغول معظم آسيا، بما فيها الصين العظيمة، وعندما وصلوا الى فيتنام، لم يتوقع احد ان يتمكن البلد الصغير من المقاومة والانتصار، لكن قائد البلاد امر جميع الفيتناميين بأن يكتبوا على كل ورقة شجر العبارة التالية: »على الغزاة ان يرحلوا« وبـ… العسل. كي تخرج النمل والحشرات لاكل العسل فتحفر العبارة على الورق. وعندما دخل المغول ورأوا ذلك اصابهم الرعب، اذ اعتقدوا ان ثمة قوة ما ورائىة خارقة وراء الظاهرة.. فهربوا..
في ذاكرة المواطن الجنوبي اللبناني ما حفظناه كلنا اطفالا في مدارس لبنان، عن صيدا التي احرقت نفسها كي لا تستسلم للمقدوني، بعد ان كاد يذلها الحصار، ثم نهضت من كوم الرماد، طائر فينيق نورانيا..
وفي الذاكرة ايضا ما لم ندرسه في المدارس، لكننا عرفناه بالتقصي ويعرفه الجنوبيون بالثورات، عن الثلاثي العاملي الذي جمع الثورة ضد العثمانيين الى اول مدرسة عربية غير عثمانية في جبل عامل، الى قواميس اللغة ومنجدها.
في ذاكرته الحية المتجددة، ما عبرت عنه فلاحة لبنانية عجوز لصحيفة اجنبية عام 1983: »انظري الى يدي، هذه الشقوق، عشرة الارض اليومية، حيث اعتدت منذ سنين ان استقبل الفجر في حقولها، لن اتركها لأتسكع على ابواب المسؤولين والمتنفذين في صور وبيروت«.
في ذاكرته، ومعيوشه اليومي اصرار لا مثيل له: اصرار على البقاء اصرار على البناء كلما هجم العدو البربري ليهدم او يحرق او يدمر، واصرار على المقاومة جعل صحفيا في مجلة لوبوان الفرنسية يشبه المحتلين قبل اشهر من انسحابهم بالارانب.
لكن.. ما في ذاكرة ومعيوش وسلوك الجنوبي اللبناني هو هو ما لدى كل مواطن في هذه الامة خاصة اولئك المناضلين الشرفاء في الجنوب الكبير: جنوب سوريا، فلسطين.
فلماذا تحقق لهؤلاء، ما لم يتحقق لاولئك؟
سؤال صعب، يرتبط بحزمة معقدة من الظروف: الاستراتيجية الصهيونية دون شك، والتي تقبل التضحية بسيناء او بجنوب لبنان، وربما غدا بالجولان لاجل الاحتفاظ بفلسطين.
ولكن ايضا: هناك عاملان اخران لا بد من تسجيلهما:
الاول: ان المقاتل في الجنوب توصل الى التلاحم الكامل مع حكومة بلاده، تتيح له حرية التحرك، تنظيما، وتدريبا وتسلحا وعملا.
وتحمي ظهره عسكريا وسياسيا وديبلوماسيا.
وتدعمه وطنيا واعلاميا وفعليا: تقف وراءه فتخرس كل متردد او مشكك.
والثاني انه قد اتيح لهذه المقاومة المجيدة ان تستند الى بعد عربي داعم فكانت سوريا الرئة التي تتنفس منها، والمصل الذي تتحرك به والى بعد اسلامي عبر ايران.
فاكتسبت بذلك حجما وطاقة لم يكن من الممكن تحقيقهما في الميزان، لو اصرت على الصراخ “وحدنا” واصرت على استقلالية ليست في الحقيقة الا انفصالا عن البعد القومي.
بعض من عناصر مهمة تشكل جوابا على: لماذا انتصر الجنوب؟ وان تكن هناك ثمة عناصر اخرى لا مجال لتفصيلها هنا.. ولا بد من دراستها لان التاريخ الطويل كما كتب امس محلل سياسي اوروبي حول النتائج المتوقعة من كامب ديفيد.