“الله يرحم عيون الشباب اللي رجعونا لبيوتنا”.
وتجهش الكهلة العائدة الى »القنطرة«
نساء تتلمس عيونهن ملامح قراهن الاسيرة منذ ربع قرن، كما تتلمس ايديهن برفق خاشع دامع بلاط القبور،.. بارد، يقال عنه عاده.. لكنه بالامس كان ينبض وعبر اليد والعين الحانية، عبر شاشة تلفاز صغير، تسري قشعريرة نبضه في نبضنا، تيارا تحمل كل ذبذبة من ذبذباته اسما: سناء، علي، حسين، عاطف، وجدي، ابتسام، مصطفى.. اسماء واسماء لم تترك حرفا من الابجدية، ولا صيغة من صيغ تراكيبها، الا ونبت منه مرادف لكلمة الكرامة، ونشيد للهيب الحرية، وغرسة مقدسة ضاعت في فضاء ارض الجنوب، عبق ليمون، وبركة زيتون..
لهم.. لهم وحدهم عرس الجنوب المبلول بالدمعة، المقمط بفخر ممزوج بالقلق..
لهم وحدهم ان يبصقوا في وجوه الاقزام الغارقة في لهفة ظهور فردي نرجسي تافه، بل وفي عيون هؤلاء الجاحظة جشعا لمكاسب بحجم احلامهم المسوخ..
لهم وحدهم، كل بذرة جميلة حفظت في ارواحنا، وكل خجل جميل يمسك رؤوسنا عن الارتفاع امام ذكرهم، وهم رافعاتها النخلية امام التاريخ والامم..
لهم وحدهم دموع العائدين من التهجير ودموع الارض العائدة من السبي..
كانوا كلهم هناك.. اجل رأيتهم، بؤبؤ عيونهم الذي اذابته الغازات السامة فوق قلعة الشقيف، آخر ما سقط عام ،82 تدفق نهرا غسل بالامس جدرانها، وعمامة فخر الدين، وعدا تحقق لعينيه.. ثالث احتلال ينحسر عنها خلال اقل من قرنين..
كلهم.. اولئك الذين انزرعوا في ارض الجنوب، لتنبت كل خلية شجرة، كانوا يرقبوننا امس ونحن نحيي عيد القطاف..
»بالقوة والدم سقطت يهودا، بالقوة والدم ستعود«. ذاك كان الشعار الذي رفعه جابوتنسكي يوما، ليجعله البيتار في كل العالم شعارهم، ولترفعه الارغون وشتيرن، بعدها في فلسطين… وليستمر مع الجيش الذي يطلقون عليه صفة »الدفاع« وهو يحتل ارض الآخرين، ويجتاح لبنان حتى بيروت..
ما كان احوجنا، لاستعارة شعار عدونا، مع فارق جوهري: انه يبنيه من روسيا واوروبا على وهم حق طوطمي اسطوري، واننا نبنيه في ارضنا وبلادنا، على حقيقة حق ممتد على امتداد وجودنا الالفي المتصل فيها..
فهل سيكون لدرس الجنوب، قدرة على تفتيت التحجر اليهودي، على اقناع هؤلاء الحاقدين الاستعلائيين بان القوة ليست وعدا الهيا خصهم بها يهوه دون البشر، وان الدم هو سائل يسري في عروق جميع البشر على السواء، ولم يكن كذلك كي يعجنوا به فطير فصحهم فقط..
هل يشكل قطاف الجنوب، وعدا اكيدا، لهؤلاء المصرّين على حمل اكياس قمحهم على خاصرتهم، وبذرها في ارض فلسطين، على ري ليمونها وزيتونها، بدمائهم، واسناد قاماتها، ان كسرت بعظامهم.. المؤمنين بان كسر الاغصان والجذوع، لا يقتل الجذور، التي تحيك تحت سطح التراب قامة نبتة جديدة..