اعادة انتاج

اقتصاد سياسي، 20-04-2000

ليست منتجات النفط وحدها هي ما نصدره للغرب، فيعيده الينا مصنعا معلبا، ونهرع لشرائه بأعلى الاسعار، محققين لمصدره الربح المزدوج: ربح الشراء وربح اعادة البيع.

اذ يبدو ان قدر دول يسمونها »تهذيبا« العالم الثالث، هو الابتزاز المركب، على غرار الفائدة المركبة، فهناك مرابون افراد، وهناك مرابون مؤسسات، وهناك مرابون دول… وهناك اخيرا مراب كبير اسمه الشمال، ومدين كبير كبير اسمه الجنوب..

وكما في كل حالات الانقلابات الاجتماعية الخطيرة، التي تحول الاصلاء الراقين الى فقراء حرب، والطارئين الحديثي النعمة الى اثرياء حرب »سواء أكانت الحرب عسكرية ام اجتماعية« فقد حولت حروب هذا القرن الآفل، اولاد الاصول الحضارية الالفية الى فقراء، ومحدثي الحضارة الى شركات متعددة الجنسيات ودول »كبرى« عظمى تتحكم بما يسمونه »صناديق« وما يسمونه »بنوك« وما يسمونه »منـظمات دولية« كما تتحكم ـ ككل دائن ـ بثروات المدين وقراره السياسي والاقتصادي والثقافي.

ولعلنا نحن العرب، ضمن دائرة الجنوب او العالم الثالث، او الدول النامية، او..،.. اكثر المديونين ثراء، واكثرهم ديونا، اكثرهم قدرة، واكثرهم شللا وارتهانا، اكثرهم عراقة واقلهم وعيا.. وربما.. ولهذه الاسباب كلها.. تنشط علينا، كما لا تنشط على أحد، آلة تفريغ الهواء »المعروفة لكل دارسي الفيزياء، الذين يعرفون ايضا، ان نتيجة نجاحها في تفريغ اي جسم، هي انعدام الوزن«..

نتجاوز الامور الكبيرة من مثل النفط، وذهاب ما يقبض ثمنا له، لشراء منتجاته مصنعة، او شراء منتجات المصانع في الدول الغنية، او شراء اسلحة صدئة.. مما يحول المالك، في المحصلة، الى مدين مرهق..

نتجاوزها الى اصغر امور حياتنا اليومية، فثمة كتب انيقة، باللغة الانكليزية، يعادل ثمن الواحد منها، ثمن المجموعة الكاملة لكتب فراس سواح او محمود درويش، او نجيب محفوظ مثلا، تعلمنا، على سبيل المثال، ماذا يجب ان نأكل.. وتنتهي الى عبقرية نصيحة ان القمح الكامل افضل من القمح المقشور، وكأن جدتي التي كانت تطحن القمح منذ سبعة الاف سنة الى اليوم، كانت تقشره.. وكأن القمح لم يكن الاساس الغذائي والثقافي، في حضارتنا منذ نشوئها الاول، بحيث تحول الى الرمز الديني الاول في جميع ديانات الخصب المحلية، وحتى في المسيحية التي ورثتها، مما يجعل نقشه لا يغيب عن اي أثر في هذه البلاد.

وكأن فيليب حتي، الذي وصل بابحاثه التاريخية الى ان الهلال الخصيب هو اول من كرس زراعة القمح، جاعلا منه مادة غذائية اساسية، وصدر ذلك الى مصر الفرعونية ومن ثم الى العالم.. لم يكن يعرف ان هذا المنتوج المصدر، لن يصبح فقط موضع نقص يهدد الامن الغذائي، ونتسوله »منحة من الشعب الامريكي« نأكل محتواها ونخيط الاكياس سراويل، وشراشف.. بل ان التفنن الاستهلاكي سيعلمنا في مرحلة ما ان نقشر القمح، ونأكل اللب وحده.. وفي مرحلة اخرى سيجعلنا نكتشف ان الغذاء الرئيسي يكمن في القشرة، فيبيعوننا الخبز المصنوع بالقمح المقشور وحده، والخبز المصنوع بالقشرة “النخالة” وحدها.. واخيرا، وفي مرحلة ثالثة نعود الى الاكتشاف المذهل بانه من الافضل ان نأكل القمح بقشوره كاملا..

ما حصل للقمح، ينطبق على كل الحبوب.. على اللحوم المجمدة، على المواد المعلبة، على مشتقات الحليب، على المشي “الذي كان سلوكا تلقائيا فأصبح: “رياضة” على اواني الطهي، التي صفقنا للحديث منها، لنكتشف انه يحمل لنا السرطان والالزايمر.. على كل سلوكنا الذي نحتاج الى كتاب بالانجليزية، باهظ الثمن، ليدلنا على ما كانت تفعله جداتنا..

د.حياة الحويك عطية

إعلاميّة، كاتبة، باحثة، وأستاذة، بين الأردن ومختلف الدول العربية وبعض الأوروبية. خبيرة في جيوبوليتيك الإتصال الجماهيري، أستاذة جامعيّة وباحثة.

مواضيع مشابهة

تصنيفات

اقتصاد سياسي الربيع العربي السياسة العربية الأوروبية الشرق الأوسط العراق اللوبيهات المسألة الفلسطينية والصهيونية الميادين الهولوكوست ثقافة، فنون، فكر ومجتمع حوار الحضارات رحلات سوريا شؤون دولية شؤون عربية شخصيات صحيفة الخليج صحيفة الدستور صحيفة السبيل صحيفة الشروق صحيفة العرب اليوم في الإرهاب في الإعلام في رحيلهم كتب لبنان ليبيا مصر مطلبيات مقاومة التطبيع ميسلون