صراعات.. صراعات شكلت تاريخ هذه الانسانية وحاضرها، ولكل موضوعه وساحته.. لكن ما من صراع في التاريخ، شكلت الارض موضوعه الاساسي بالامتياز الذي يشكله صراعنا مع اليهود، اذ لم يحدث ان ادعى مستعمر ان الارض التي اغتصبها هي ارضه وان شعبها دخيل عليها، يجب طرده منها.
وعندما انتشرت، في السنوات الاخيرة، الدراسات التي اوضحت ان الادعاء اليهودي في ارض فلسطين، لا يقوم الا على اساطير »دينية« في حين تقوم حقوق كل شعب في بلاده على حقائق العلم ولقاء التاريخ مع الجغرافيا، دراسات جعلت حتى بعض المؤرخين الجدد يعترفون بنظرية »الاساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية« فنرى زئيف ستيرنهيل، يستعمل هذا العنوان بعد روجيه غارودي.
عندها انبرت الانتلجنسيا الاسرائيلية الى الهجوم المضاد، ورأينا الباحث ايمانويل سيفان، الاستاذ في الجامعة العبرية، والمتخصص في الدراسات الصليبية على يد كلود كوهين في السوربون، يصدر كتابا بعنوان »الاساطير المؤسسة للسياسة العربية«، تشغل فيه القدس وصلاح الدين الحيز الاكبر، وينقسم الى عدة فصول تعالج مقدمتها النظرية ما يسميه الكاتب »الاساطير السياسية« التي يعتقد ان كل الشعوب قد بنت مجموعة منها عبر تاريخها كي تجعل من وجودها وجودا شرعيا.
كما يقول ان الدول الحديثة الولادة تستحضرها اكثر من سواها، لتواجه بها اعداءها الخارجيين وخصومها الداخليين.
بعد المقدمة يأتي الانتقال »المنطقي الى بحث الاساطير السياسية التي بناها العرب عبر تاريخهم متخذا نموذج بحث: القدس وصلاح الدين.
ومدرجا ذلك في اطار نشوء الدولة العربية الحديثة وصراعها مع الاستعمار والصهيونية، في الخارج، وصراع التيارات الرئيسية: قومية، اسلامية، ويسارية في الداخل.
واذ يغطي الباحث عمله بشكل علمي مكثف مبني على نبش الارشيف والوثائق بشكل قلماحصل سابقا، مستفيدا من تخصصه في موضوع الصليبيين، ومن دراسته للاسلام وهو صاحب كتاب الاسلام الراديكالي، الصادر في اميركا عام 1993، فانما يفعل ذلك بفرضية ذكية هادفة ودقيقة، تعمل على تأكيد مجموعة من الافكار تصب كلها في مصب القدس، موضوع الجدل الاكبر في القضية الفلسطينية.
اول هذه الافكار عام، يوصلنا الى انطباع ان »الدولة العربية« و»الدولة الاسرائيلية« دولتان حديثتان نشأتا بعد الحرب العالمية الاولى، اي في مرحلة ما بعد الاستعمار، وان كلا منهما اتكأت على اساطيرها السياسية، لاثبات مشروعية وجودها.
مركزا على ارتباط ذلك بالحدود الاصطناعية الموضوعة للمنطقة، وبعدم استقرار علاقات القوى، وبالحاجة الى اضفاء مشروعية ما على الصراعات السياسية التي قادتها هذه الدول.
وثانيها ان هذه الاساطير العربية، ونموذجها القدس، وصلاح الدين، لا تختلف في »افتعاليتها« السياسية، حيث يحاول ان يبرهن على ان القدس لم تكن مدينة مقدسة لدى المسلمين منذ البداية، بدليل ان جدلا كبيرا كان دائرا في العصر العباسي حول عدم جواز اضفاء صفة »المدينة المقدسة« الا على مكة والمدينة، ولم يحسم هذا الجدل الا ردا على الادعاءات الصليبية.
ليخلص الى سؤال: هل يمكن والحال هذه تغييب الاسطورة الصهيونية المتعلقة بالمدينة؟ ومشيرا الى اسبقية هذه على تلك، ومساويا بين »الصليبية المسيحية« و»الصليبية الاسلامية« على حد تعبيره.
ان هذه الدراسة التي شهدت احتفاء عالميا، خاصة من قبل الغرب الذي اعجب بطرح »الصليبية العربية« تؤكد لنا امرين:
الاول هو ضعف منطق الاتكاء على الادعاء الاقليمي فيما يخص الوجود العربي مقابل اسرائيل، اذ ان الدولة الاقليمية قد نشأت فعلا متزامنة مع اسرائيل، الا ان الوجود القومي اسبق، ومستمر منذ آلاف السنين، وهذه الاستمرارية هي التي تمنحه مشروعية لا تملكها قبائل عبرت يوما..
والثاني ضعف الاتكاء، ايضا على الادعاء الديني سواء كأساس لنشوء الدولة او لمشروعية الوجود، فالقدس لنا لانها جزء من ارضنا، عاش عليها انساننا وتفاعل معها على امتداد العصور، سواء احتضنت المسجد الاقصى وكنيسة القيامة ام لا.
هي لنا لاعتبارات التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع، ونشوء الامم ونتيجة لكل ذلك التاريخ الذي يضم المرحلة المسيحية والمرحلة الاسلامية، وما قبلهما، مما يعطيها ثراء ثقافيا روحيا خاصا.
ان المنطق الديني في تبرير مشروعية وجود الامة والكيان السياسي لا يخدم الا اسرائيل لانها لا تمتلك سواه، في حين نمتلك نحن كل العناصر، فلماذا نمنحها فرصة مساواة لا تمتلكها؟
اما الامر الاخير والهام فهو الحاجة الماسة الى همة الباحثين العرب، وجلدهم، وعملهم، في هذه المرحلة التي تجاوزت حرب البندقية الى حرب العقل والبحث والعلم.
وليكن كذلك احتفالنا بيوم الارض.