حركة بعيدة الرمزية والدلالة، تلك التي أقدم عليها ايهود باراك بوضع الصليب فوق ظهره، خلال احدى محطات استقبال البابا.
وهي دلالة ترتبط وثيقاً، بما وعدت، في مقال الامس حول مؤتمر ستوكهولم، أن اتناوله بتفصيل. جواباً على سؤال: لماذا اعتبار موضوع وجود أو عدم وجود غرف الغاز في المعتقلات النازية، أمراً بهذه الأهمية؟
وهل تختلف جريمة القتل اذا حصلت بسبب التجويع أو الحرب أو أي أسلوب آخر؟
ولماذا تتركز هذه المعركة الشرسة الدائرة، منذ خمسين عاما، بين الداعيين الى المراجعة التاريخية واليهود، على قضية وجود أفران الغاز أولاً، وعلى عدد من الضحايا من اليهود ثانياً؟
تبدأ المسألة من مصطلح الهولوكوست »الذي يعرفه قاموس لاروس يونفيرسال بما يلي:
»تضحية دينية مألوفة لدى اليهود، تأكل فيها النار الضحية كاملة«.
من هنا ولأجل اضفاء الطابع القدسي لموت اليهود في الحرب العالمية الثانية، كان لا بد من أمرين: أولاً: أن تكون هنا ابادة كلية وتنظيم خاص لموت اليهود، وثانياً: أن تكون هناك أداة جريمة تؤدي الى حرق الضحية كاملة.
وبذلك يصبح للقضية بعد ديني أسطوري، يجعل منها حدثاً استثنائياً لا يجوز أن تقارن به مذابح ضحايا النازية الآخرون بعد ان يجعلها تندمج في المشروع الإلهي على صورة صلب المسيح في اللاهوت المسيحي فيحتل بذلك »الشعب الميت« مكان الشهيد المخصص لـ »الإله الميت« في الأسطورة اللاهوتية الممتدة، ليكون معنى الانبعاث الموازي لقيامة المسيح، هو انبعاث دولة اسرائيل، المتمثل في الاتحاد الاقنومي بين الشعب المختار والأرض الموعودة. وهذا ما عبر عنه أحد كبار الحاخامات بقوله: »ان خلق دولة اسرائيل هو رد الله على الهولوكوست.
لذلك نرى أنه عندما لم يكن ممكنا القول بالحرق في الغاز، قيل بالحرق في شاحنات الغاز، أو في برك مائية يمرر فيها تيار كهربائي. لذلك تركزت أبحاث المؤرخين المراجعين على هذه الادعاءات تحديداً، إذ، بعد أن بدأ كشف الحقيقة في شهادات شهود عيان، ظلت قابلة للنقاش، انتقل في الثمانينات الى البحث العلمي الذي أثبت بشكل قاطع كذب ادعاء أساليب الحرق كلها.
من هنا جن جنون الجهات اليهودية على صعيدين:
المتدينون الأصوليون الذين يقاربون الأمور الأسطورية الدينية بعمى مطلق لا يعترف بالعقل.
والسياسيون المخططون الذين يعرفون الفائدة الاستثنائية المتحققة عن اقرار هذه الصفة الاستثنائية، سواء باثارة الشعور الديني لدى اليهود واستغلاله، أم باثارة عقدة الذنب وواجب التعويض لدى جميع الدول المعنية بالحرب.
وهذا ما لا يعود ممكناً لو اتضح أن اليهود ماتوا من ضمن معسكرات الاعتقال الاولى التي بناها هتلر للشيوعيين، وبذات الأساليب التي مات بها الآخرون… أو من ضمن الضحايا السلاف أو سواهم من فرنسيين ونمساويين وغجر…الخ أو كانوا من ضمن ضحايا وحدات (الاينستاز غروبييه) التي شكلت لتعقب انصار السوفييت وقتلهم حتى ولو كانوا أسرى كذلك لا يعود ذلك ممكناً اذا سمح بظهور الحقيقة التي أثبتتها الأبحاث العلمية من أن أفران الغاز لم تكن إلا أفران لحرق الجثث منعاً لانتشار الاوبئة، وحقيقة أن »الحل النهائي« الذي رأته النازية لقضية اليهود تمثل في ترحيلهم، (وهذا ما دفعنا نحن ثمنه)، لا في ابادتهم.
ومثلها الحقيقة الأخرى: حقيقة الرقم، لأن انكشاف أن الستة ملايين لم يكونوا في الحقيقة أكثر من مليون، يعني أن هذا الرقم الأخير هو نسبة عادية ضمن عدد ضحايا النازية في أوروبا. كما أن اثبات كذب ادعاء يطرح الادعاءات الاخرى على طاولة المناقشة.
ان ذلك لا يخفف جريمة النازية ضد الانسانية، لكنه يلغي الطابع القدسي الاستثنائي لموت اليهود، ويلغي بالتالي قوة الشحن والتعبئة ومبرر الابتزاز، وهذا ما ليس لأحد مصلحة فيه كما لنا نحن، ورغم ذلك كنا نحن آخر من انتبه الى هذه القضية، ولم نحاول، لا اثارتها اعلامياً، ولا مد يد التعاون الى العلماء المناضلين العاملين على كشفها في الغرب، حباً بالحقيقة أؤ حباً بأوطانهم.