“هذا جبل نبو، الذي في ارض مؤاب، قبالة اريحا”
(التوراة تثنية 48)
“وقال لي كموش: اذهب وخذ نبو من اسرائيل، فذهبت في نفس تلك الليلة واشتبكت بالمدينة من وقت تبين الخيط الابيض من الخيط الاسود، حتى الظهر.. وافتتحتها… ضحيتها لعشتر كموش.. كما أنني أخذت من هناك مواقد يهوه وسحبتها جميعاً حتى وضعتها بين يدي كموش”.
(مسلة ميشع)
بالامس صلى قداسة البابا في جبل (نيبو)، وبالامس وعدت، في مقالي، بتقديم معلومات دقيقة عن هذا الموقع المهم.
انه القمة العليا في مملكة مؤاب، التي كانت مزدهرة عندما عبر اليهود المنطقة، والتي رفضت كسواها الاذن لهم بالاستقرار في ارضها وعندما عادوا لينتقموا منها ويحتلوها بعد قيام دولتهم القصيرة العمر، لم يدم الأمر إلاّ فترة قصيرة، يدل عليها مطلع نص مسلة ميشع:
“لقد اضطهد عمرى ملك اسرائيل مؤاب وخلف عمرى ابنه اخاب فقال هو الآخر: ساضطهد مؤاب…”.
ومن ثم يتابع النص تسجيل قصة انتصار الملك المؤابي ووضعه حداً للتعدي، ليختم بعبارة:
“وبادت اسرائيل، بادت الى الأبد”.
أما الاسم: نيبو، فهو اسم اله التجارة لدى البابليين، وأما التسمية الأخرى: سياغة (بتسكين الحرف الاول وترقيق الثالث) فهي لفظة آرامية سريانية تعني: السياح، الحاجز، الصومعة، الدير، وكر الطائر.
وأما الآثار المكتشفة على امتداد الجبل من آبار، ومعاصر للزيت والعنب، وسور، وهياكل فتؤكد على الحالة العمرانية الزاهرة التي تصفها مسلة ميشع المذكورة.
ولذلك، ولدلائل اخرى يعتقد المنقبون ان الكنائس الثلاث القائمة على الجبل، قد اقيمت على انقاض هيكل مؤابي اقدم.
وليست كنيسة النيبو إلاّ حبة في عقد الكنائس البالغة الأهمية المنثورة على قمم وفي سفوح مؤاب، ولكل منها قصة ومكمن اهمية تاريخية تعكس حياة المسيحيين الاوائل.
كما تعكس فنون وعلوم وتاريخ المنطقة: من كنيسة المخيط ورأس يوحنا المقدم على طبق، الى كنيسة الخريطة، الى تلك التي تعكس صراعات طقوس ومعتقدات تتعلق بالمعمودية أو بالحملة المضادة للايقونات ولتصوير الشخصيات الخ.. مما سمح بتصوير مادبا على لوحة فسيفساء، ملكة متساوية مع بيزنطة وروما.. المدن الثلاث الاهم في الامبراطورية … (لوحة أحسن اهل المدينة في اختيارها هدية يقدمونها للحبر الاعظم الضيف).
وإذا كان المجال هنا لا يتسع لاستعراض جوانب الأهمية الفريدةلهذه البقعة المؤابية، المسيحية، العربية. فإن السؤال الخطير الذي يستوجب الدهشة هو: لماذا يصار الى اهمال كل ذلك لصالح التركيز على قصة وقفة موسى، وقبر موسى؟
سؤال بحثت طويلاً عن جواب له، منذ بداية الثمانينات، عندما كنت أعد كتاباً عن الاردن، لأجد أنه ليس هناك ادنى أثر او دليل، يؤشر الى قبر لموسى على تلك القمة، وأن الذين بنوا القصة، استندوا اولاً الى يوميات سائحة اسبانية جاءت البلاد حاجة عام 1394م حيث كتبت تقول:
” في هذا المكان شيدت كنيسة تحت جبل نبو. ويعيش هناك رهبان قديسون يجيدون استقبال الضيف” ثم تضيف انها شاهدت مقاماً مرتفعاً قليلاً عن سطح الأرض “ظننته” قبراً، و “من الارجح” انه اقيم لذكرى موسى النبي.
مجرد حاجة، متأثرة بما سمعته من الاقاصيص الدينية “تظن” و”ترجح”، فتبنى على مذكراتها حقائق التاريخ.
هذا اذا كانت هذه الحاجة موجودة فعلاً ولم يتوفر اي دليل ثان على هذا الادعاء، إلاّ على يد سائح آخر، وفي مذكرات اكثر تشويشاً وغموضاً، حيث يقول:
“في طريقنا من تل الرامة الى مادبا، عرجنا الى الجبل المقدس جبل موسى”.
تعود الى التوراة نفسها، فتقول لك بأن أحداً لا يعرف قبر موسى:
“فمات هناك عبدالرب موسى في ارض مؤاب، ودفن في الجوء، ولم يعرف انسان قبره الى اليوم”.
(تثنية: 33/34)
وتنتهي الى ان تقودك الاجابات الى سؤال:
لم حشر هذا الوهم على قمة هي الأكثر استراتيجية وخطورة في منطقتها؟
وينتج عنه اليوم السؤال الاخطر والأهم:
لماذا يبدأ قداسة البابا صلاته من هناك؟ وإن كان لا بد، فلماذا ربطها بوقفة موسى وهي نفسها امر مشكوك به ولا دليل تاريخياً عليه؟
اذا لم تربط بما للجبل من تاريخ الفي مشحون بالمحبة والآلام، وبالمعاني المسيحية نفسها؟