كثيراً ما يسأل قارىء كاتباً يومياً، من أين تجد موضوعاً كل يوم؟
وكثيراً ما يقف كاتب عاجزاً عن الكتابة، لتزاحم المواضيع، التي تطرق كلها بالحاح على جدران خزان الروح مطالبة بالتجسد على الورق..
أهي غصة، كتلك التي تصيبك ان شربت كماً فائضاً من الماء وبسرعة؟..
أم هي غصة أخرى، تجعلك تتمنى لو تقلع عيني زرقاء اليمامة، رغم انك أوفر منها حظاً، اذ ان معظم من حولك يصدقونك؟
أم هي غصة اختناق نابعة من ساعات عمل على ترجمة خرائط المفاوضات الاسرائيلية – العربية (وسيراها القارىء على صفحاتنا خلال الايام القادمة).
واحدة للجولان، ثانية لجنوب لبنان، ثالثة للاستيطان، رابعة للاجئين في العالم العربي، ورابعة للاجئين الموزعين في العالم. وخامسة تمثل رسماً بيانياً لتاريخ الصراع العربي الاسرائىلي.
تتسع الحدقات أمام الثالثة والرابعة، الأرض، والانسان.. واحدة مبرقعة، وللمصادفة بالاحمر.. ككل أرض شهدت جريمة قتل، وأخرى مرشوشة بدوائر رمادية، للمصادفة أيضاً، تشير الى مجموعات اللاجئين، سواء في مخيمات أو بدونها… رمادية كما كل من سلخ من أرضه… أو كما المواقف السياسية من هؤلاء الناس.. ومن كل ناسنا…
عند كل نقطة دائرتان متلاصقتان واحدة تشير الى الرقم المعلن رسمياً، وأخرى أكبر، تشير الى الرقم الحقيقي… لكأن في ذلك أيضاً، تجسيداً لحالة الازدواجية بين المعلن والحقيقي في كل ما يتعلق بهذه القضية الأساسية، بل وبكل قضايانا الأساسية.
فكيف تكتب؟..
بعد أن تعمل ساعات: على وطنك المبسوط على طاولة المشرحة، دون ان تملك اشاحة النظر، لأن دقة الترجمة تتطلب دقة التمعن.
على ناسك، يحوّلهم التجريد الخرائطي الى مجرد كرات رمادية، ليس لها اذا قذفت من مكانها، حظ الكرات في العودة اليه، بعد ارتطامها بالجدار..
على طاولة المشرحة هذه، يستلقي الوطن كله، بأقاليمه، وكيانه، ودوله ذات السيادة المستقلة، وحدوده التي رسمها لك ولأحفادك مستعمران اوروبيان، فلم يجرؤ أحد الا اسرائيل على تغيير بوصة فيها… بل وأصبح تكريسها ودق كل المسامير في معالمها، رمز الكرامة والسيادة والقوة..
على طاولة المشرحة، يؤلمك ان الخاضع للمشرط ليس جثة، حولها الموت الى ماض »من التراب والى التراب«، بل كائناً حياً ينبض بالماضي والحاضر والمستقبل، وتنبض فيه أنت وأولادك وأحفادك، كلكم من ترابه، لكن ترابه الى غيرك يعود…
واذا رفض العودة، صاح هذا الغير باحراقه، أمام عينيك..
كرات.. دوائر.. رمادية، تتجاوز كفقاعات صابون… لكنها بشر لهم أقدامهم على الأرض، وعظام أجدادهم فيها..
رقع… حمراء… تتناثر.. في انتظار تمدد يحولها الى غطاء…
وأنت، تحاول ان تبقي الروح في الجسد الممدد، رغم المشارط..
تسترجع دور كهنة المجوس..
وتسترجع دروس التاريخ… فتكتب…