الوقت المطاط، كالملابس ذات القياس الموحد، كلهم يفصله على قياسه..
بعضنا يضغط الاشياء، يحث الخطى، يحرص الا يلتفت لا يمينا ولا شمالا، الا يترك فسحة بين النفس والنفس.. لتتسع الساعات الاربع والعشرون لما عليه ان يفعل..
وبعضنا يمط الاشياء، يمط الخطى، يتلفت في كل الاتجاهات، يتنفس مزايدا على تمارين اليوغا، ليجد ما يملأ به الساعات الفائضة عن النوم من تلك الاربع والعشرين.
لكن الاطرف في الفئتين، هو ذاك الفريق الذي ينفش قطن اليومي، ويخفق سائل اي كأس طارئ، ليحوله الى رغوة هائلة تضاعف حجمه مرات ومرات، غير منتبه او مكترث الى ان ذلك ليس الا فعل فقاقيع الهواء.
وما يزيد الامر طرافة ان هذا الفريق الثالث قد يكون اكثر الناس شكوى من ضيق الوقت!!.
وربما لا يكون من قبيل الممتع لكاتبة امرأة، ان تعترف، بان اكثرية اعضاء نادي الشكوى هذه، من النساء، وغالبا، من النساء المترفات، خاصة اولئك اللواتي عينهن الزوج »مديرة للعلاقات الاجتماعية« في وسطه، او تلك اللواتي لم يعينهن احد في شيء، فعين انفسهن بوظيفة (مشغول).
ثمة من يعجب لشكوى هؤلاء، اللواتي يتأمن لهن كل شيء مادي بجهد سواهن، اي الرجل، ويتأمن لهن كل شيء معنوي، بحكم جملة المضاف والمضاف اليه: بدءا من ابنة فلان ووصولا الى ام فلان، مرورا بزوجة فلان، وهذا هو الاهم.
لكن معرفة السبب تنفي العجب، كما يقال، وبالتالي فان التركيب النفسي والاجتماعي للانسان بشكل عام، مبني على جملة اسس من اهمها، حاجته العميقة لان يكون منتجا، وحاجته الاخرى لان يكون هو هو..
لذلك فان غياب الاحساس بالانتاج، وبالتالي بالاستقلال الاقتصادي، واستقلالية الحضور الاجتماعي والحياتي، يعمق الاحساس الاخر بالتبعية، والشوق الدفين الى جملة فعلية في فعل وفاعلين، بدلا من تلك التقليدية: جملة الفعل والفاعل والمفعول.. شوق يترجم باثارة الرغوة تلك ومط الوقت المسكين ليتسع لها. دون ان يعني ذلك انه مط لا يستهلك الاعصاب والجهد..
اما لماذا لم تكن امهاتنا وجداتنا يعشن هذه الازمة؟ فقد كن في واقع الامر، متصالحات تماما مع واقعهن، عرفن كيف يحولن الطاقة الانتاجية الى حقل الحياة المنزلية، خاصة بحرفياتها اليدوية سواء منها المتعلق بالجماليات ام بالوفر الاقتصادي. ورسخن المثل الشعبي القاضي بان من يوفر افضل ممن يجلب.
هذا من جهة..
ومن جهة اخرى، لم يكن لهن هذه التطورات الاجتماعية، التي خلقت نماذج اخرى من النساء، تشكل تحديا ينبههن الى ما يفعلنه لا يكفي، وان ثمة ادوارا اخرى امامهن.
غير ان ردة الفعل التي جاءت احيانا ايجابية، ولكن متطرفة، واحيانا ايجابية واعية، قد جاءت في احيان اخرى سلبية مضحكة. فثمة امرأة تمكنت من ان تحقق ذاتها في مجال عمل وانتاج عام، ولكنها رمت بدورها المنزلي من النافذة، فكانت كمن »رمى الطفل مع ماء الحمام« كما يقول المثل الفرنسي، لتخرج من حالة عدم توازن الى حالة عدم توازن اسوأ، هي التي عبرت عنها رائدة النسوية الامريكية بسؤال متأخر في كتابها (المرحلة الثانية): هل نحن في المكتب اكثر سعادة منا في المنزل؟.
وثمة امرأة استطاعت ان توفق بين دور طبيعي يجعل من الانوثة حاضنة، وحضورا نديا للجمال والحنان، لا يخجل من ان يترجم نفسه في مفرش طاولة او تنسيقة زهور او طبق انيق لذيد.. ودور طبيعي مكتسب اخر، يجعل منها حضورا فكريا ثقافيا عمليا عماليا منتجا ومستقلا… مما يعطيها بالتالي التوازن والراحة، اللهم اذا لم تقع في مطب التذمر من ضرورة اضطلاعها بالدورين معا، وكأن في ذلك عبئا، لا ميزة وفضلا. وهنا يأتي دور الرجل في تغليب كفة الاحساس الثاني عبر المشاركة.
اما النموذج الثالث، المضحك المبكي، فهو الذي لم يعد يريد ذكك ولا هو قادر على العبور الى ذا… لانه يريد كل مكاسب الوضع التقليدي التبعي، ودون ان يدفع ثمنها كما كانت تفعل جدتي، ويريد معها كل تحرر الوضع الاستقلالي وحضوره، ودون ان يدفع ثمنها كما يفعل جيلي. ويعتقد انه بمط الاشياء وجعلها رغوة مليئة بفقاقيع الهواء يحقق ما يريد..
هل غريب ان توحي لي جلسة نسائية بكل هذا؟
لم تكن الجلسة مختلطة، والا لكنت قلت اشياء مشابهة كثيرا عن الرجال.