كاتبان، احدهما اميركي والآخر بلجيكي اصدرا مؤخراً كتابين مهمين حول ما بات يدعى في الغرب: الامركة ورفض الامركة، (العنوان الذي حمله حوارنا مع روجيه غارودي قبل شهرين).
الجديد في هذين الكتابين انهما لا يتناولان الامركة، بوصفها هيمنة للرأسمالية الاميركية في الخارج، فقط، وانما يبحثان بعمق وتفصيل، في تأثير هذا الخط الرأسمالي، المادي، على المواطن الاميركي نفسه، تأثيراً يتجلى في عدد من الظواهر اهمها ظاهرة الاغتراب الذاتي المؤدي الى الضياع، والى الظواهر السلبية التي يشهدها هذا المجتمع… منبهين الى خطر تفشيها في جميع المجتمعات التي تنهج هذا النهج.
الكتاب الاول لعالم الاجتماع الاميركي بول هولاندر الاستاذ في جامعة ماساتشوتس، وعضو مركز دراسات جامعة هارفرد ويحمل عنوان “رفض الامركة” (العقلاني واللاعقلاني).
وفيه يقول ان هذا الرفض هو موقف تلقائي تقريبا، (او انه من السهل اثارته) وذلك لانه ينبع من احساس بالظلم وعدم التفهم، خارج اميركا، ومن احساس بالاغتراب والاستهجان الاخلاقي، داخلها.
الكتاب الثاني للفيلسوف البلجيكي بول غراسي، الذي يرأس تحرير (دو دفانا) المتخصصة في القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، وفيه يطرح سؤالاً خطيراً حول ما اذا كانت الامركة (بمعناها الرأسمالي، والمصمم على الهيمنة على العالم) هي بحد ذاتها ظاهرة ضد الاميركية نفسها (بمعناها هوية الشعب الاميركي).
ليرد على سؤاله في فقرة من هذا الكتاب الذي يحمل عنوان “عالم اميركا المريض”.
»ليس رفض الامركة، موقفا موجهاً ضد اميركا، او ضد الانسان الاميركي، وانما ضد الامركة وحدها، التي هي عقيدة جهاز مركزي مسيطر، هو الذي ينتج العولمة الاقتصادية والعسكرية، هذه العولمة التي تبدأ ظواهر رفضها داخل الولايات المتحدة نفسها«.
لكن المشكلة برأي بول هولاندر، الذي يرى الامور من داخلها، ان هذا الرفض الذي بدأ منذ الستينات وتنامى في التسعينات، والذي يتفق مع غراسيه على وجوده، وعلى كونه ناشئا عن حالة الاغتراب (بمعناها الفلسفي الاجتماعي النفسي)، المشكلة في انه موقف نخبوي، يتخذه المثقفون، والكتاب، والمفكرون، ولا تتبناه جماهير الذين يدفعون ثمنه سواء فكرياً ونفسياً (الاغتراب) أو ماديا (الفوارق الاقتصادية والظلم الاجتماعي)، وذلك لان هؤلاء، وببساطة، لا يعون ازمتهم.
مما يذكر بمقولة المفكر الكبير نعوم شوامسكي، احد ابرز الذين تنبهوا مبكرا لهذه الحالة: المفكرون هم بحكم التقليد والواجب، نقاد، طارحو اسئلة، غير قابلين للاندراج ضمن الاطر السائدة، وللخضوع للفكر السائد، وربما خصوم منافسون للنظام الاجتماعي السائد.
غير ان ما حصل في سياتل، ومن ثم في باريس، ودافوس، برهن على ان تقديرات الفيلسوفين السياسيين، بخصوص نخبوية الرفض، مخطئة قليلاً، رغم ان كتابيهما قد صدرا في العام 1999م.
ذاك ان منطق التاريخ هو ان النخب هي التي تعي وتتحرك اولا، لكنها لا تلبث ان تدفع وعيها وحركتها في شرايين الشارع. هذا اذا لم تكن تأثيرات الظواهر المعنية على الحياة اليومية للافراد، هي التي تحرك العامة بتلقائية، قد تتجاوز التنظير في الغالب.
والسؤالان الخطيران، اللذان نصل اليهما هنا، هما:
1- اذا كانت الولايات المتحدة، التي تعيش ذروة مجدها، وامركتها، وعولمتها، الآن مرشحة للتفجر او للانهيار او للتراجع، لانها تحمل بذور ذلك في داخلها… فاية قوة هي التي ستحل محلها؟…
واين سيكون موقعنا نحن العرب من القوى الجديدة.. لاية مصالح تؤسس معها؟
خاصة وان اللوبي اليهودي العالمي، لا يرقب هذه التحولات، ليؤسس لعلاقته معها، فقط، وانما ليساهم في صنعها.
2- اي دور تلعبه نخبنا في عملية التوعية والاستشراف، واي تواصل تبنيه مع الناس؟!