بين مشية الامبراطور، كسيرا، ولكن حازما، على السجادة الحمراء، حتى المنصة التي اعلن عنها استسلام اليابان.
وبين خبر حملته وسائل الاعلام قبل يومين عن دعوة الاحزاب اليابانية الى اللقاء والحوار للخروج بصيغة لتعديل دستور البلاد، الذي فرضه عليها الحلفاء بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية، خمسة وخمسين عاما.
بين قيام دولة اسرائيل، على ارض فلسطين المغتصبة، وهزيمة العرب في حرب الخليج، اي هزيمتهم امام المشروع الصهيوني ـ الامريكي اقل من اثنين واربعين عاما، لكن اذا اضفنا الى تاريخ الهزيمة العسكرية، سنوات اقرار المعاهدات التي تشكل استحقاقاتها، لخرجنا برقم مساو تماما.
مفارقة، لا نقول انها تدعو للتفاؤل بمستقبل يختلف عن هذا الحاضر القائم. ولا نقول انها برهان آخر، على ان الحقوق لا تموت في ضمير الشعب، حتى ولو ماتت في ضمير جيل من اجياله.
ولا ان اية حلول قائمة على المصادرة والقهر والتسلط وفرض الامر الواقع، هي قنابل موقوتة، وان طويلة الامد، مزروعة تحت ابط الزمن.
بل نقول انها يجب ان تشكل لنا دعوة لقراءة التجربة اليابانية العظيمة، في النهوض، من قاع الهزيمة، الى امتلاك قدرات تسمح لها بالعودة الى عرشها المنصوب بين الامم، والى اعادة النظر في كل ما فرض عليها من واقع، ومن نصوص.
ليست قراءة التجربة اليابانية عملية سهلة، لكن عناوينها الرئيسية واضحة ومعلنة لكل من تابعها.
واولها اعتصام هذه الامة بخصوصيتها بحزم وصرامة، دون ان يمنعها ذلك من احتلال ساحات الحداثة العلمية والتقنية والثقافية والفنية، بحضور مذهل وتفوق لا يمكن لاحد انكاره.
حتى نظام العمل، وآلية السوق، ونظام الانتاج، كلها كانت توضع بناء على دراسات دقيقة تجعلها تترجم الخصوصية اليابانية، وذلك ما حلله بوضوح باهر مؤسس شركة »سوني« عملاق الاقتصاد الياباني، في مذكراته.
في مستهل تلك المذكرات قال الرجل: »بعد الحرب، فكرت ومجموعة من الزملاء، كيف لنا ان ننتقم لهيروشيما وناكازاكي، ونعيد لليابان حضورها وسيادتها، بدون حرب، ووصلنا الى نقطتين: العلم والثقافة، اي عمليا: الصناعة التي تسابق العصر، والحفاظ على الخصوصية الثقافية اليابانية في كل شيء، وبالنسبة لنا، بناء نظام العمل في صناعاتنا على اساس هذه الخصوصية«.
وفي بينالي الشارقة، للفنون التشكيلية، العام الفائت، كان ضيف الشرف فنانا يابانيا عالميا، عاش جزءا من حياته في باريس وامريكا اللاتينية، وعندما قدم ورقته الطويلة عن منجزه، وعن التشكيل في بلاده، حملنا في رحلة طويلة من اول الفلسفات اليابانية وتجلياتها في النمط الفني، الى احدث منجز تشكيلي هناك وكونه ايضا تجل لهذا الخط الفكري الياباني، مرورا بالزن والبوشيدو، وسواهما.. موضحا ان خصوصية هذا الشعب، خطه الفكري وفلسفته لا يتجليان فقط في لوحة الفنان، وانما في اسلوب تنسيق الحديقة، في ترتيب الطبق، في نمط الزي »الكيمونو«، في الالعاب، في نمط الحواجز المنزلية »البارافان« الخ..
بالقدر ذاته نرى الشعر تعبيرا آخر، عن هذه الخصوصية واذ »الهايكو« عملا جماعيا، يعود الى آلاف السنين، المحور فيه هو الطبيعة المبدعة، لا نرجسية الشاعر الفرد.
حتى اللعبة التي يمارسها الاطفال في المدارس والحدائق ـ يقول الكاتب الفرنسي ايف غور هي خصوصية يابانية فريدة.
خمس وخمسون سنة، كان على اليابان فيها، ان تعترف اولا بالهزيمة، ان تحفظ ذاتها وتعمل على الخروج منها..
لكأنها كتبتها بنوع من ذلك الحبر الذي يختفي بعد وقت من حلوله ساطعا على الورقة..
ولكأننا نكتب بحبر آخر، لا مرئي، لا يقرأه الا عدونا..