الندوة الفكرية التي تقيمها نقابة الفنانين الاردنيين على هامش مهرجانها “بترا للثقافة والفنون”، تتناول قضية هامة وملحة، هي قضية “العولمة”، في العديد من ابعادها، خاصة الثقافي المتعلق بالهوية.
وبقدر ما يبدو اختيار هذا الموضوع صحيحا ومهما، من حيث مقاربته لقضية تمس حياتنا اليومية، وسيادتنا ووجودنا القوميين، بقدر ما يستدعي الامر بعض الملاحظات:
اولها: ان العولمة ليست قضية فكرية فوقية تكفي مناقشتها في الندوات والقاعات المغلقة، مهما كانت نسبة وعي المناقشين، وصحة مواقفهم، فالعشرون الف مواطن، الذين نزلوا الى الشارع في فرنسا متظاهرين ضد العولمة، لم يكونوا من المفكرين المثقفين فقط، بل كانت غالبيتهم من المزارعين، وسائقي التاكسي، والعمال، والموظفين، صدف ان كنت هناك واستمعت الى الكثيرين منهم يتحدثون بعضهم الى بعض، او الى وسائل الاعلام، فكان المزارع يبرر موقفه بما ستؤثره العولمة المتأمركة على زراعته ومواسمه، والعامل على عمله، والحرفي على حرفته، على قدرته الشرائية، على فرصة الصادرات الفرنسية في الخارج، على هجمة برامج الشركات الكبرى »وغالبيتها العظمى امريكية« على برامج التلفزيون، تحدثوا عن ماكدونالدز عن بيرغر كينغ، عن ليفايس، عن تحول الطفل الى لعبة معينة ونموذج معين.. غريبين عن فرنسيته.. الخ…
وكانت الاذاعة »خاصة« ناشطة جدا في ايصال صوتهم، مما يزيد من نمو التيار الشعبي.. وعندما امتدت هذه النار الى سياتل، لم يكن المتظاهرون هناك مختلفين، بل تبين ان قائد المزارعين الفرنسيين، هو الذي كان هناك واسهم بشكل رئيسي في تحريك الاحتجاج.
ولا ينفي هذا اطلاقا دور المفكرين، والكتاب الفرنسيين، في توعية الشارع وتحريكه، بحيث اصبح شعار »الامركة ومناهضة الامركة« شعارا ممتدا من اقصى اليمين الى اقصى اليسار.
وقد رأينا ترجمته العميقة الواضحة في حوار غارودي في الدستور قبل شهر.
تحرك شعبي، لكنه لا يبدو غريبا عن موقف الحكومة، فها هو رئيس الوزراء جوسبان، يتجه الى طوكيو في نهاية الالفية، ليدعو من هناك الى اقامة تحالف ياباني ـ فرنسي، لمواجهة العولمة، والى احلال تعاون دولي يحترم خصوصيات الشعوب وثقافاتها، ويقبل بالاختلاف مصدرا للحوار والنمو.
مترجما بذلك دعوة سياسية، طالما رددها المفكرون، الى تحالف اوروبي اسيوي، لمواجهة العولمة الامريكية.
ولا يختلف هذا الوضع عنه في ايطاليا، حيث تمكن ماسيمو دليما وحزبه من الخروج منتصرا من معركة سياسية حادة، لبها الحقيقي، هو الصراع مع التبعية الامريكية مرورا بامريكا اللاتينية، حيث حملت الانتخابات الى الحكم مؤخرا زعيمين يسيران في اتجاه معاكس للعولمة وللامركة.
قراءات سريعة، لا تنس المحاولات الاسيوية، ولا تنس ايضا ان القضية ما تزال صراعا في اوله، وما يزال التصدي للدبابة الامريكية او محاولة ايقاف زحفها، تحديا صعبا.
لكن، كل الاخرين يخوضونه، وخوضه لا يمكن ان يكون مجديا الا اذا تغلغل في صفوف القوى الشعبية، وبالتالي اثر في قرار الحكومات.
مما يستدعي بالضرورة ان تنتقل عملية التوعية من منابر القاعات، الى المنابر الشعبية، وان يتواصل النشاط ليحقق ما عليه لا تستطيع ان تحققها لقاءات وندوات متباعدة ومحدودة.