مؤلم للكثيرين ذاك الحديث المتداول في موت الايديولوجيا.
ولكن يبدو ان موتا اخر، اوسع مدى يعلن عن نفسه، مع اقتراب الالفية الثالثة، انه موت الفكر ولنقل الفكر بالمعنى الذي شكل بؤرة حياتنا نحن اجيال الالفية الثانية، وخاصة ذلك الجزء الممتد فيما بعد الحرب العالمية الاولى وحتى التسعينات.
لكأن العقدين الاولين طفولة القرن، والعقد الاخر شيخوخة، وما بينهما عمره الحقيقي.
خبر رهيب الدلالة في هذا السياق حملته وسائل الاعلام الفرنسية مؤخرا، وهو اغلاق دار نشر بوف P.U.F في باريس، بعد افلاسها، رغم محاولة وزارة الثقافة دعمها.
ليست قيمة هذه الدار، في انها كانت تشكل واجهة عالمية للجامعات الفرنسية، بل في جانبين اخرين احدهما يتعلق بتاريخها وتشكلها، وثانيهما بمضمون انتاجها.
فقد تأسست «بوف» عام 1921 على شكل تعاونية طلابية، هدفها تقديم المواهب الجديدة، والتيارات الفكرية التي تشكل موضوع الصراع الفكري بين الشباب، وتقديم الكتاب بسعر يقع في متناول الجميع.
ونمت الدار بلغت شبابها الضاج في الخمسينات والستينات والسبعينات من رحمها خرج سارتر ولاكان وفوكو ودولوز وليفي شتراوس ورولان بارث وريفيل وكريستيفا.
ما من طالب عرف باريس ولم يعرف مكتبتها وحلقاتها، وما من طالب في العالم، لم تحرك مياهه تيارات هؤلاء الذين كان تأثيرهم العالمي يوما اقوى من تأثير حلف شمالي الاطلسي.
من يدها ايضا خرجت تلك السلسلة التي شكلت قاموسنا الحياتي في كل المجالات: «ماذا اعرف؟» تلك الكتيبات الصغيرة التي لم تترك عنوانا، ولم تترك معرفة من «الوجودية» الى «النجارة» و«قبائل الزولو».
ما من طالب او كاتب لم يعرف مديرها بول انجولي، الذي ادارها، كرب اسرة، حتى عام 1968، واستمر بعدها عضوا في مجلس ادارتها، وعندما كان عليه ان يوافق، في اخر جلسة لهذا المجلس على تصفيتها وبيعها لجاليمار، خرج تائها طوال الليل على بولفار سان جيرمان، ليدخل اجتماع الصباح مترنحا منكسرا.. لم تكن مأساته انه يوقع نعيها، بل نعي جيل وقرن ومرحلة حضارية ونعيه الذاتي..
افلا يحق لنا ان نرى معه، كلنا، نعي ذاتنا؟
فعندما كان الشارع الممتد من باك غاليمار الى شان ميشال مرورا بسان جيرمان، يحفل بدور النشر المتجاورة التي تتدفق شلالات من الفلسفة والسيكولوجيا، والسوسيولوجيا، والانثروبولوجيا، والالسنية والادب الخ.. لتشكل كلها معا سيل الفكر الهادر في الشارع، كانت معظم عواصم العالم، خاصة تلك الثقافية منها تشهد شوارع موازية، ومواقع موازية والكل يشكل سمفونية عالمية الايقاع.
الم نكن نحن في بيروت، وحمراؤنا الممتدة من كلية الحقوق في الصنائع الى الجامعة الاميركية، مرورا بالهورس شو، نجدف في البحر ذاته؟
لكن الهورس شو تحولت الى مطعم ساندويشات، والمكتبة الصغيرة وراء الكابيتول، التي كانت تبيع «ماذا اعرف؟» امحت من الوجود ومقر الـ «بوف» في سان جيرمان اصبح متجر احذية اجل احذية.
امن الغريب، ام من الصدف ان يكون اخر كتاب اصدره جاكار في سلسلة «ماذا اعرف؟» عن «الجنون»؟