تقف امامه متهيبا.. هو البحر الذي يحفظ وحده سر ايقاع موجه، موسيقاه وهيبته، وسحره.
يتحداك ان تعيد خلقه، وتحفظ مكامن ذلك السر وتجلياته.. تعترف بواقعية ان ذلك مستحيل… مستحيل. ولضرورات اخرى تقرر خوض الموج والمجاهل… وتكتشف ان لتلك الصعوبة متعة، لا متعة بعدها..
انه الشعر..
وهي المغامرة..
مغامرة ترجمته الى لغة اخرى.
انت المتغطرس بقدرتك الفائقة على اللعب باللغتين والافكار كما الطفل والمعجونة.. المستمع بانسيابية الصياغة تلقائيا، كما الماء من الصنبور.. القادر، براحة، ومتعة وبراعة، على ان تتلبس كاتبا آخر بفكره وصياغته واسلوبه، بروحه وتجسده الابداعي، وتعيد خلقه من خلال روحك وتجسدك.. انت.. تفرك اليدين ارتباكا، وتحفزا، امام مغامرة ترجمة الشعر..
تذكر »جان تاردو« الشاعر الفرنسي الذي وقف باصرار عند رفض ترجمة اي بيت من شعره، كما رفض قراءة اي بيت مترجم، وعندما ألحت عليه غواية هولدرلين، درس الالمانية خصيصا لقراءته..
تذكر فولتير وعبارته الشهيرة »الاسلوب هو الانسان«، وردك عليها بان الترجمة تجعل »الاسلوب انسانين معا«..
تذكر حنين بن اسحق، ودار المأمون، وسليمان البستاني، وسلالة المترجمين المبدعين… والشرط الثلاثي: اتقان لغة المصدر، اتقان اللغة المنقول اليها، واتقان الفن المعمول على ترجمته..
تشعر ببعض الهدوء لانك راض عن نفسك في الشرطين الأولي، ولأن معرفتك بالشرط الثالث جيدة ليس فقط فيه كابداع وانما في كل مرجعيات المادة المعنية.
لكنك لست شاعرا، وتعترف لنفسك وللآخرين بذلك، كما نادرا ما يحصل لعربي… غير ان جملتك الابداعية فيها الكثير من خصائص الشعر.
اذن.. فالمهمة الصعبة ليست في الدراسات النقدية الثلاث، وانما في القصائد.. اذن، فلتتم ترجمتها نثرا، على الا يكون نثرا عاديا سرديا، وانما عبر جملة تحفظ للقصيدة روحها، وشيئا كبيرا من خصائصها البنائية.
الصعوبة الكبرى، ليست في الصياغة النهائية، وانما في فكفكة البيت، او الابيات التي يجمعها ترابط ما، واعادة تركيبها بشكل يراعي أصول الصياغة الفرنسية، مع المحافظة على خصوصية الصياغتين: العربية والعرارية، والحرص المطلق على المعنى… عمل يحولك الى طفل تلهو باحدى تلك الالعاب التركيبية الاكثر تعقيدا ومتعة (الليغو)، لكنه يوصلك في النهاية الى ان تبني مركبا شراعيا جميلا تقف امامه فرحا مصفقا بيديك، قبل ان تنزله الى بحيرة ادب لغة وعلى متنه، العرب، والاردن واخيرا… الرجل الشاعر.. طبيعة، تاريخا، نضالا سياسيا، تمردا اجتماعيا، شهادة ابداعية، شخصيات من ناس وشهداء، ومرابين ومستبدين، ونساء رائعات… عالم جميل.. يساعدك في التمكن من عبور صعوبته، متعتة لا حد لها، صادرة عن تماهيك الكامل مع البؤرة المركزية التي تصدر عنها كل مواقف هذا الشاعر: الحرية.. التي لا تتجلى الا بالتمرد.. ان انطفأت شعلته المجنونة انطفأ الابداع كله..