«ان مسيحيي الاردن المعاصر، احفاد الانباط، الذين استطاعوا ان يحافظوا على بقائهم رغم الاضطهاد التاريخي من قبل الامبراطوريات الاسلامية، ومن قبل البدو، يجدون انفسهم اليوم امام تهديد قد يؤدي الى اختفائهم تماما. والاسلام، بجوهره غير المتسامح وغير الودود، لا يتقبل وجود اجسام غريبة في داخله».
غريب هذا الطرح؟!
اجل، والاغرب ان هذا الحريص، الخائف على مسيحيي الاردن هو كاتب فرنسي اسمه جان بيير فالونيو، اخذ على عاتقه «تنوير» العالم، فيما يخص مسيحيي العالم العربي، فخصص لذلك دراسة تقع في حوالي الف صفحة، خلاصة الفصل المتعلق بالاردن فيها هذا المقطع الذي ذكرناه، نقلا عن مجلة مركز دراسات الشرق الاوسط (Cermoc) الصادرة في عمان
لم يعن «الباحث» كثيرا بالعلم ليعرف ان مسيحيي الاردن عرب غساسنة وليسوا متحدرين من الانباط، ولم يعن بمصادر علمية موضوعية اذ ان كل ما اعتمد عليه عبارة عن كتب واقوال مبشرين غربيين، وبعض الشهادات المزعومة، التي لا قيمة لها، لانه لم يذكر اسماء اصحابها.
لكنه حرص على ان يعرض للوضع القانوني، والاجتماعي، والسياسي، للمسيحيين، كما يريد ان يصوره هو كي يتمكن من ان يخلص الى ان ثمة خطرا يتهدد هولاء، مصدره كما يقول: «الاحساس القوي المعادي للمسيحية لدى مسلمي الاردن» وهو احساس يمكن ان يخلق تشددا اداريا ازاء المسيحيين، بل يمكن ان يؤدي الى عنف ضدهم» ـ والكلام له دائما ـ «مما قد يخلق قلقا صامتا يفسر هجرة العديد من المسيحيين الاردنيين الى الغرب».
مرة اخرى نعود للغرابة، فمن اين اكتشف هذا الداعية الغربي قلق المسيحيين، وعلاء المسلمين؟ وما هي غايته، ومن وراءه، من التبوء بـ «اعمال عنف»؟
قد تكون ردة الفعل على قراءة كهذه موزعة لدينا بين من يسخر منها، ويقول هل نحن بحاجة الى من يضيء لنا حال بلدنا؟
ومن يثور ويغضب على هذا التشويه سواء من المسيحيين والمسلمين الواعين، او من اولئك الذين يعميهم الحماس، وفورة توجيه الشتائم الى الغرب المسيحي، والدفاع عن الاسلام.
وثالثا بين من ينظر الى الامور بروية اكثر، بحذر اكثر، ليضعها في اطارها التاريخي، والاعلامي ـ السيكولوجي ـ الاستخباراتي، والاستراتيجي العام.
لنعد الى كون نغمة الاقليات، وخطر الاسلام عليها، لم تبدأ الا في منتصف القرن الماضي، عندما كانت دول اوروبا، تريد الحصول على «الامتيازات الاجنبية» الاقتصادية والسياسية، من الرجل المريض.
ولنتدرج الى تاريخ الفتن في لبنان، وارتباطها بظروف المنطقة سياسيا واقتصاديا.
لنصل الى نقطة خطيرة وهي اثارة موضوع اقباط مصر، مقابل الاصولية السوداء هناك، واشتعال ذلك بعد كامب ديفيد.
فهل ثمة مخطط مشابه للاردن بعد وادي عربة؟
اهي قنابل موقوتة داخلية، يجب ان تزرع لحين الحاجة، اذا ما انتهى الصراع الخارجي «ولو مؤقتا» لتظل وسيلة ضغط ووسيلة تدمير؟
ولنقل بصراحة، ان الاستخفاف بهذه الامور لا يجوز، فكم من كلام يبدو مضحكا ينتهي مع التكرار والتزيين واستغلال الفرص الى ان يصبح مقنعا وبأثر رجعي غالبا.
بل وكم من اذان لدى الطرفين لديها استعداد، تخجل في المجاهرة به، للاستماع والاندراج عن غباء او عن قصد في المخطط؟
عمليا، لنعترف بان التجمعات الطائفية لدى الطرفين، آخذة في تشكيل فعاليات غير تقليدية، وغير مألوفة، تشكل «غيتوهات» صالحة لان ينمو في داخلها التعصب ورفض الآخر، مما لم يكن معروفا في حياتنا التقليدية.
ورغم اننا من اكثر من رفض العشائرية والقبلية، الا اننا لا ننساق الى كلام كاتب كفالونيو هذا ضدها، لان ما يدفعه الى ذلك غضبه من كونها تشكل اطارا يذوب فيه المسلم والمسيحي معا.
واذا كنا نعرف دور تنظيمات مسيحية غربية في الاردن، في تهجير مسيحيي العراق، فان السؤال يصبح مشروعا: هل ان حديث الدوائر الغربية عن هجرة مسيحيي الاردن، مجرد كلام؟
على ان السؤال الاخطر هنا هو: من الذي يمول ابحاثا جبارة كهذه «كتاب في الف صفحة عن المسيحيين العرب»، وقد عرضته مجلة السيرموك مع كتابين آخرين. لنا معهما وقفة اخرى؟
فلتكف السياسة الغربية عن قصف مسيحيي العراق، او جنوب لبنان، لتعد مسيحيي القدس ورام الله وحيفا وغيرها.. لتصغ الى موقف البابا شنودة، والمطران كبوجي.. ولكن.. ليكن لنا نتحن، الذين توضع القنابل في جيوبنا، وبرضانا، ردنا، ليس فقط من خلال الابحاث والكتب، وانما من خلال التطبيق العملي، والاجراءات، ومن خلال وعي ان كل تطرف يخلق تطرفا مقابلا.
وان الجهل، او سوء النية، في عدم تربية المواطن على ان الانتماء هو للوطن اولا واخيرا، لا لاية عوامل تجزئة تخدم كل عدو… هو الذي يجعل منه ارضا خصبة لكل الامراض.