كيف يمكن ان يكون العالم بدون كلام؟
كيف يمكن ان تكون حياة الفرد اذا انعدم احساسه بالعالم من حوله؟
لا يتناول هذان السؤالان حالات مرضية، كالخرس او فقدان الوعي، بل تصورا لحالة طبيعية تكون فيها الامور على هذه الصورة.
تصورا صاغت الروائية الايرلندية اليزابيت بوين، وفقه رواية بعنوان »ايفا تروث«، اعتبرت في حينها اي في السبعينات اغرب سيرة ذاتية تركها كاتب. واعتبرها البعض من بدايات رواية الخيال العلمي. ذاك ان بوين تحاول ان تروي سيرتها، في مرحلة الطفولة الاولى فقط، قبل ان تكتشف الكلام وتتعلمه، وقبل ان تنتبه الى »وجود حياة خارج ذاتها« كما تقول.
لكن الكاتبة لم تتساءل عن العلاقة السيكولوجية الجوهرية بين الكلام ووعي الحياة خارجنا.
هل الكلام تعبير مرتبط بالذات، حتى بدون ذوات اخرى، ام انه جسرنا الى الآخر؟
هل ثمة علاقة تبادلية عميقة بينه كمفتاح للوعي، وبين الوعي كمفتاح له؟
واذا كان الكلام فعلا مفتاحا للوعي، افليس الصمت وسيلة الغوص الى ابعاد اعمق في الوعي الذاتي والوجودي؟
وحتى فيما يخص التعبير، الا نصل الى التمييز القديم بين الكلام والقول؟
اذ يصبح الكلام وسيلة من وسائل القول، وما اكثرها، ووسيلة ليست الاقدر والاكفأ فببساطة، كلنا يعرف قول العيون، وقول الاصابع، وقول التقاسيم.. قول قدم تطرق الارض بطريقة او باخرى، ويد تلمس او تنفض سيجارة بطريقة او باخرى.
وببساطة اقل، نصل الى نموذج المسرح، حيث يتحول نص الكلام الى نص الجسد، الصوت، الديكور، الاضاءة، الملابس، وحركة الاخراج..
ونبتعد اكثر مع الباليه والموسيقى، حيث ينتفي نص الكلام لصالح النصوص الاخرى.
نعود الى الفلسفة اليابانية، لنجد المقولة الشهيرة: »بعد القول ثمة ما يبقى دائما« والمقصود هنا بالقول الكلام الذي يعجز عن نقل تجليات »الطبيعة المبدعة« ومن هنا، تقديس الصمت، والاداء الحركي، لانه الاقدر على ترجمة الروح..
وفي تشبيه اقرب الينا، يقول الشاعر ممدوح عدوان: كلنا نذكر »العين« اي ينابيع الماء، و»الطاسة« التي كنا نغرف بها.. الكلام كالطاسة والمعنى القائم في الروح كالينبوع.
لكن هذه الاعتراضات على قدرة الكلام، لا تعكس انعدام الوعي بالعالم الخارجي كما تقول اليزابيث بوين، بل على العكس تماما تعكس وعيا يستعصي على التعبير.. وربما تعكس وعيا يحتاج صاحبه الى التعبير ،كي لا يختنق به، كما يحصل للينابيع التي تفور في جوف الارض..