عندما انتصرت روما على هنيبعل، كلف مجلس الشيوخ، سيبون، باحراق قرطاجة، وعندما وقف القائد المنتصر امام المدينة المهزومة، صمت طويلا، ثم انتحى جانبا وبكى، نادى مرافقه المؤرخ بيلوب، الذي ارخ لصعود الامبراطورية الرومانية ليقول له: »انه يوم جميل، لكنني اشعر بشيء من القلق والتوجس من يوم يأتي، ويقف فيه انسان اخر، ليوجه انذارا مشابها لبلادي«.
وبذكاء بارع التقط بيلوب البعد السيكولوجي للموضوع، نذر كتبه كلها للرد عليه، بان يحول خوف النهاية الى ثقة بالبداية، ان يحور التاريخ كي يعطي روما رسالة عالمية قائمة على مبدأ ان نصرها لم يكن اعتباطيا، بل علامة على قدر خاص يحملها مسؤولية الحضارة الانسانية والدفاع عنها اذ لا يمكن للعالم ان يخرج من وضعه المتخلف بدونها، وبدون فرض القيم التي ادعتها لنفسها: السلام، العدالة، الحكمة: فرضا يجعل منها قوة فوق الجميع، ويمنحها حق اية استعمالات عنف، تبدأ من احراق المدن، وتصل اوامر مارك اوريليوس بصب الرصاص في حلوق الاسرى من البرابرة، »البرابرة الذين يعرفهم بيلوب بأنهم كل من ليس من الامبراطورية او ضدها«.
وفي كل ذلك كانت الامبراطورية تبحث عن وحدتها وقوتها في الصراعات الخارجية، اذ »لا يمكن لامبراطورية ان تتأمل طويلا في فراغ حولها دون ان تتملكها فكرة موتها« كما يقول العالم السياسي جان كلود روفين.
فكرة الموت هذه »خوف النهاية« القلق هي ما التقطه المفكر الامريكي نعوم شومسكي محذرا من انها المرض الذي ينتشر بسرعة في المجتمع الامريكي، وبتجليات مختلفة. ففي الوقت الذي يدفع فيه هذا المجتمع للتثاؤب استرخاء وافتقارا للحوافز، تتكرس لديه كل سيكولوجية »روما والبرابرة الجدد« وتندفع قياداته بهوس الى الصراعات الخارجية، حتى ولو استدعى الامر، اختلاق العدو، واختلاق المهمة، وتجاهل امكانية التوصل الى تأمين المصالح بالوسائل السلمية التفاوضية.
فاذا ببيل كلينتون يتحدث عن مواجهة تهديدات امن الدولة من قبل الارهاب والدول الخارجة عن القانون »اي قانون؟!« واذا بالبنتاغون يدعو الى عدم الاعتماد على الحلفاء المحليين، واضطلاع واشنطن مباشرة بالتدخل العسكري، واذا بوزارة الدفاع تعلن في تقريرها لعام 1999 عن التهيؤ للعمل في مناطق بعيدة جدا عن حدود البلاد.
اما الاشخاص، او الانظمة التي ترسم لها صورة الشيطان فتتغير بحسب الظروف والخطط، المهم وجود عدو قابل للشيطنة وفي هذا يقول شومسكي ان امام كل ازمة ثلاثة احتمالات: اما التصعيد واما الاهمال واما الحل السلمي، ويمضي الى تحليل موقف واشنطن المنحاز الى التصعيد في كل الازمات الدولية، من حرب الخليج الى كوسوفو، مرورا بسواها.
فهل هذا الميل العميق الى التصعيد هو ما يسميه بول فاين »الامبريالية اللاشعورية« التي تتوكأ على حجة الامن والسلام، لتمارس العنف؟