كتابة حياة..تناص مع الحياة
قراءة في كتاب “حوار الأنهر”
د.مها العتوم
د.حياة الحويك عطية تقدم في هذا الكتاب “حوار الأنهر” شخصية جديدة، وتكتب نصا عاليا لا يمكن ربطه إلا بالشعر من حيث تفرده واختلافه، ومفارقته لمستويين من الكتابة: المستوى الأول الحسي والمباشر الذي يعبر عن الواقع وينقله كما هو، والمستوى الثاني الاستعاري الذي يتفاعل مع الأشياء والواقع الخارجي تفاعلا مجازيا، لتتجاوز هذين المستويين إلى مستوى ثالث هو المستوى الأسطوري الذي يتجاوز الحس والعقل، ويتحرك كما يتحرك الحلم، من غير أن يستند بناؤه إلى حد من الحدود*، خاصة أن “حوار الأنهر” مبني على ربط المتباعدات أصلا، لأنه يربط نهر الأردن بنهر الدانوب عبر توليفة توظف المعرفة اللغوية والتاريخية والثقافية والشعرية وتتجاوزها إلى كل أشكال الفنون من رسم وتشكيل ونحت وموسيقى.وإذا كانت الأسطورة قد وجدت لتفسير ظواهر الكون وفهمها من قبل الإنسان* فإن أسطورة الأنهر في “حوار الأنهر” تأتي تفسيرا لعلاقة قد لا تكون ممكنة إلا بالصيغة الرمزية والتخيلية التي تقدمها حياة الحويك في هذا الكتاب.
ولذلك يقدم الكتاب صياغة للعالم كما كان وكما ينبغي أن يكون من أول التاريخ مرورا بتشكل الأنهر وانقسامها وتشكل اللغات والثقافات والفنون على أطرافها، وصولا إلى تلاقيها من جديد في عرس فني ولغوي وشعري في نهاية النص.وهذا ما قال عنه هربرت س غيرتمن في السوريالية:الأسطورة والواقع:”هذا العنصر الغنائي في الإنسان وقدرته على صنع الأسطورة، من أجل إيجاد ميثولوجية جديدة بوسعها أن تكون دليلا للسعادة، لضرب من فردوس أرضي”.وقد قسمت الكاتبة النص إلى ستة فصول هي:باب الأسطورة، باب الطقوس، باب اللون الذي ينقسم بدوره إلى جزئين هما: الدانوب ليس أزرق/ محمود درويش.والدانوب الأزرق/شتراوس، ثم باب التشكيل، فباب البقاء، فالباب الأخير تحية الوداع.
إن المستوى الأسطوري المقصود في هذه القراءة لا يقف عند حدود الاستعانة بالأسطورة والتناص معها كما فعلت الكاتبة في الباب الأول:باب الأسطورة، وتابعتها في بقية النص، وإنما تتعداها إلى الارتقاء بالمستوى اللغوي والفني والمعرفي في النص إلى المستوى الأسطوري.إنها تكتب أسطورة جديدة.فالأسطورة عند هيدجر هي الكلمة التي يكشف بواسطتها الحقيقة المطلقة” .وهي عند نورثروب فراي: صيغة كلامية يتحد فيها الطقس والحلم”. وهي هنا نص ذو طاقة رمزية عالية ينطلق من الأسطورة في الباب الأول، ويختزل مقولة النص في هذه العبارة المفتاحية الشعرية..”تشظى الجسد والماء، تداخل الجسد مع الماء، تباعدت أجزاء الجسد وأجزاء الماء..أنجبت الأسطورة بحارا وأنهارا، أنجبت الحنين، وعنف صراع البقاء”.فالأصل واحد والانقسام خلق الحنين وفي الوقت نفسه الصراع، وبناء على هذه الثنائية المحورية ينبني النص برمته.والإنسان هو صاحب الفاعلية السلبية أو الإيجابية:”لكنه الإنسان، ابن الأسطورة ، من ماء ومن نار، جبلة من حنين ومن طمع، من روح أمومية شفافة الجناح، ومن خيال ذكوري حديدي الجناح”، فالإنسان هنا على صورة أمه الطبيعة، مقسوم بين الحنين الذي تمثله الروح الأمومية شفافة الجناح، وبين الطمع والصراع المتشكل من خيال ذكوري حديدي الجناح، وبهذين الجناحين يحلق ويهبط، يرتفع بالفن وبالمعرفة، ويسقط بالحرب ضد البيئة وضد الإنسان وضد نفسه، وهو طوال النص يفعل ذلك.
لكن ما يربأ المسافة بين النهرين وما يؤلف بينهما رقة الحب الذي يتخلق في نهر الأردن وعلى ضفافه من جهة، وقوة الحضارة والفنون بأشكالها التي تتخلق على ضفاف الدانوب التي تستلهم ثقافة الحب وتبني قوتها بها وعليها :”وبعد قرون قال ابن مغارة بيت لحم:ورثت الحب، سأخلص الإنسانية”، وفي موضع آخر:”أنوثة الحضارة، وأصل الحب”. وفي موضع ثالث:”جغرافيتي كلها خريطة على أرض معبد.هناك في مادبا، أترك للتاريخ خريطة هي الأقدم لهذا الجزء العتيق من الأرض.قلبها القدس، وشريانها الأردن، وحوله كل ما حوله، امتدادا من بحر لبحر ومن نهر لنهر”.وهذه هي الروح الأمومية شفافة الجناح/الجناح الأول.هذا على صعيد الشرق المتمثل في نهر الأردن، وعلى الصعيد الآخر وعلى ضفاف نهر الدانوب تتشكل أوروبا :”تمشي الحضارة قرونا إلى عصرها الحديث، وعلى الشاطئ لم يتوقف ولع التشكيل، يحمل الغربيين إلى الأرض المقدسة، ويحمل أبناءها من رسم الأيقونات والمقدس إلى رسم الطبيعة”.وفي موضع آخر”من التشخيص الفانتازي إلى الملحمة يجددون ويطلقون عصر نهضة”. وهذا جناح الخيال الذكوري الحديدي..وبالجناحين يحلق العالم صعودا تارة، وهبوطا وسقوطا تارة أخرى.
أما الصعود فيمثله الحب والحنين الذي يحمله أحد الجناحين، والقوة والحضارة الذي يحمله الجناح الآخر.وأما الهبوط فيمثله تجفيف الماء وتلويثه لماء النهرين:” هو كوكب واحد لنا، ندمر بيئته، يشح ماؤه فنشهر الحروب ونموت.يستغيث وادي الأردن..يستغيث وادي الدانوب”.وفي موضع آخر:”أحلم بالأردن، وعندما بلغت البحر وجدت الموت”.و”الدانوب المقدس في غرفة الترويض، يدرب على عدم الرقص والتلوي، ويدرب على السير في مشية عسكرية مستقيمة صارمة لخدمة التجارة وعندها سيخلع حزامه الأخضر.ستموت الأسماك ونموت نحن، ويموت كل ما أوحى بالموسيقى والرسم والشعر”. وتقول:”قال رف طيور:بكينا الأردن وطبريا، وها نحن نرتجف خوفا على الدانوب”.
ولعل الباب الأخير يمثل قمة التخيل والتفنن في صياغة مناخ أسطوري يلتقي فيه وعنده النهران:نهر الأردن الذي “ينثر التاريخ كله على جسد امرأة” الجناح الأمومي والأنثوي للعالم الذي يمثل الحب والحنين والمقدس، ونهر الدانوب الراقص السكران “شبقا بندائه الخفي لأنثى قد لا تعلم”،والذي يمثل الجناح الذكوري الحديدي، وفي نهاية هذا العرس الأسطوري يلتقي العاشقان:”التقى الثنائيان في مهرجان الأنهر..لو يعودان إلى حضن الماء”.
باب اللون:
وداخل هذا السرد العالي فنيا وجماليا، هناك باب اللون الذي ينقسم إلى جزئين: الأول بعنوان:”الدانوب ليس أزرق”/محمود درويش.الدانوب الأزرق/شتراوس، وفي هذين البابين تمثيل للفكرة ذاتها، وللجناحين اللذين يحملان العالم:الجناح الأمومي حين الدانوب ليس أزرق عند محمود درويش، وحين الدانوب أزرق عند شتراوس. بل إن قراءة هذا الباب وتحليله تحليلا فنيا يختزل مقولة الكاتبة وخطابها الجمالي والمعرفي في هذا النص.إن نهر الأردن قد استأثر بالمقدس، فيما استأثر نهر الدانوب بالنهضة.ولكنهما يلتقيان في باب اللون في الإبداع:الشعر والموسيقى، وهنا تحدث الكاتبة تناصا صعبا وعاليا مع شاعر صعب وعال هو محمود درويش ومع موسيقي كبير وعالمي هو شتراوس.إن التناص هنا مبني على علاقة جدلية مع المتناص منه، أو هو تشرب للنص الأول وتحويله إلى نص جديد* بحسب جوليا كريستيفا وليتش من بعدها.وتستعين بجملة شعرية مفتاحية في النص الدرويشي وتؤسس عليها، هي:”بعد عامين من الهجرة، ماتا في انفجار القبلة الأولى”.إن محمود درويش شاعر قضيته وابن وطنه العربي الكبير ولذلك تكمل حياة الحويك نص درويش بنص يفيض بالشعرية: ” لن أرى الماء أزرق، روحي صحراء لون لا يسكنها إلا الحنين.وتوق القبلة الأولى حيث كل ألوان الكون والماوراء”.وتقول كأنها هو:”أنا الباحث عن امرأة مكان تمنحني رائحة تراب، ورائحة خبز أمي، ورائحة ضفة الأردن، مذ عبرت الجسر الخشبي”.هنا يحمل الشاعر في داخله نهره وألوانه وأحزانه وقضيته.يؤمن بالعلاقة مع الآخر ولكنه لا ينفصل عن نفسه وعن قضيته الأم، ولذلك لا يرى الدانوب أزرق وهو يطل عليه وعلى علاقة أكيدة معه.فيما يقابل محمود درويش شتراوس الذي يبدأ المقطع بانفصاله عن أبيه وجلده ليصنع نصه الموسيقي وحضارته القائمة على الانفصال وقتل الأب بحسب فرويد*:”تقول:الولد جلاد أبيه، وأنا جلدت أبي لأصل إلى الدانوب الأزرق”.والدانوب الأزرق هنا ليس مقطوعة موسيقية وحسب، وقتل الأب لا يقتصر على خروج شتراوس على أبيه وتحديه فنيا، إنها ثقافة الآخر القائمة على التجاوز، فيما الأول تقوم ثقافته على الالتصاق بالأم والحنين.وتقدم الكاتبة في باب اللون/شتراوس:الدانوب الأزرق نصا فنيا مدهشا موازيا للموسيقى:”أمواج، تختفي بسرعة، نغم جديد، والمهمة خلق الانتظار.إثارة اللهفة وسؤال التوقع.أمواج، جملة تتردد مرتين، وترتبط بالتي تليها، تدفق لا ينقطع، ونغمات أوركسترا مرافقة، نقرات تلمع، تضرب وترا، تضاعف السحر والإغراء..نهر، امرأة، روح نبي..لا حاجة للكلمة، مضمرة هي في عمق النهر، في ضمير إله”.إنك تسمع موسيقى شتراوس من خلال هذه اللغة العالية التي تفهم الموسيقى وتدرك أبعادها ومراميها. وهي تقيم مع نصه الموسيقي تناصا من نوع جديد يقوم على تشرب الموسيقى، وتحويل النوتة إلى قصيدة.
إن كل باب من أبواب هذا النص المميز يحتاج دراسة مستقلة، حيث نرى نصا يتقاطع مع الشعر والموسيقى والتاريخ والأسطورة، محمولا على لغة لا تتنازل عن وعيها من جهة، ولا عن مستواها الفني والجمالي من جهة أخرى.